شخصياً، وبكل تواضع، لا أجد ما يمكن أن يُبعدَني عن الخوض في هذا الموضوع، رغم أنه بات ثقيلاً إلى حد الضّجَر، أقصد موضوع هذه الجارة الفينيقية، ثم “التركمانية”، ثم “الفرنساوية”… التي لا يفتأ حكامُها يَطلعون علينا على مدار الساعات، وأحياناً على مدار الدقائق، بتقليعات في غاية الجدة والغرابة، ولذلك أجدُني لا أمل من الرجوع إليها بين الحين والآخر، بل أحيانا بوتيرة يومية إذا اضطررتُ إلى ذلك مُكْرَهاً لا بَطَلاً!!!
هذه المرة، أخرجتني من صمتي وترقّبي اتّهاماتٌ، جديدةٌ في توقيتها وشكلها، ولكنها قديمةٌ ومتكررةٌ في موضوعها وجوهرها، وَجّهها النظامُ المضروب في يافوخه إلينا، نحن المغاربة، يتّهمنا فيها بالعمل، بالتواطؤ مع دولتَيْ الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، على تهديد وزعزعة السلم والأمن الداخليين بالجزائر (كِدَه!!) وكأن الجزائر تعيش أحسن أيامها بعيدا عن المغرب وإسرائيل ودولة الإمارات، وهي التي تَرشُقُنا نحن الثلاثة وتَرشُقُ مُحيطَها بالكاملِ بحجارة الخَبَلِ والعَتَهِ يومياً وبلا توقّف!!
تعالوا ننظر في هذا الأمر ملياً مقتصرين على بضع علامات فارقة:
العلامة الأولى:
في جزائر اليوم، الجديدة بتعبير رئيسها، “المزوّر اللي جابوه العسكر” كما يقول الشارع الجزائري في خرجاته القليلة والمحتشمة، والتي بالمناسبة، تقل حدة وحرارة عن خرجتهم الاحتفالية الصاخبة عند انهزام الفريق الوطني المغربي لكرة القدم في نهائيات كأس الأمم الإفريقية برسم دورتها الماضية وخروجه الصادم وغير المتوقع من منافساتها…
كنت أقول، إنه في جزائر اليوم هذه، يبدو السلم الاجتماعي على كفة عفريت، وليس أسهل من أن يُسْلِمَ أنفاسَه الأخيرةَ بمجرد هبوب نسمة زائدة من نسائم المهانة الضاربة أطنابها في المعيش اليومي للجزائريات والجزائريين، البالغين أقصى درجات الإحساس ب “القهرة” و”الحكرة”، إلى الحد الذي جعلنا نطالع بين الحين والآخر أطفالا في عمر الزهور، تُذَكِّرُنا أحوالُهم بأطفال غزة المُشْعَثين والمكلومين، وهم يتوجّهون باللوم الجارح وبكل براءة إلى “عمي تبون”، داعين إياه إلى بذل ولو نزرٍ يسيرٍ من الجهد لتحسين ظروف عيشهم الضّنِك، حتى أنهم يَشْكون إليه ماسورات المياه العطلانة، وانقطاعات الكهرباء والماء الشَّروب صباح مساء، والحُفَر العميقة والحاضرة بين كل حفرة وحفرة، في دروبهم ذات الواجهات الخَرِبة، حتى أنّ طفلة من هؤلاء الصغار قالت له ذات مرةٍ بصوت يُغالبه البكاء، وهي تشير بأناملها الدقيقة إلى محيطها المباشر: “يا عمي تبون احنا في دزاير ماشي في غزة.. وعلاه تخلينا هاكّا”!!!
العلامة الثانية:
الاقتصاد الجزائري ليس منهاراً، بل قد تجاوز كل شروط الانهيار ومعاييره، وتردّى إلى ما تحت الصفر، بدليل السقوط المتواصل لقيمة الدينار في الأسواق الداخلية، أما في أسواق الخارج فقد أصبحت تلك العملة، منبوذة، او non gratta كما يقال في أدبيات السياسة الغوغائية، وباتت صُوَرُها ومَشاهدُها وهي تُلاقي الرفضَ والاستبعَاد من لدن عاملات مكاتب صرف العملات في مختلف بلدان المعمور، تسافر عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيتلقّاها المُبحرون عبر النت إلى حد التخمة، علماً بأن عملة الدينار الجزائري لا تصدر سوى عن دار السكة الفرنسية، لأن الجزائر لا تتوفر بعد أكثر من اثنتين وستين سنة من الاستقلال الصوري على دار لسكّ العملة، كما أن الدينار لا يصدر في دفعات جديدة إلاّ بموافقة “ماما فرنسا”، التي لا تجد تحت ضغط جنرالات الغباء أدنى غضاضة في إغراق السوق الجزائرية الداخلية بالمزيد من الأوراق المالية، رغم علمها بأن ذلك يزيد في رفع نسب التضخم، حتى صار الجزائريون لا يتحدثون إلا بملايين الدينارات لمجرد الإشارة إلى أثمنة مواد غذائية يومية بسيطة، أو إلى لوازم مدرسية لأطفال لا يحتاجون بالبداهة إلى أي لوازم، ما دامت الدروس تجتمع كلها على زرع بذور الكراهية تجاه المغرب والمغاربة وصوب كل ما هو مغربي… وهل يحتاج هذا المنهاج التربوي أساساً إلى أي لوازم؟!!
العلامة الثالثة:
النظام الجزائري المصاب بكل الآفات، فضلا عن شيخوخته وعجزه وهُزاله، يتفنن يومياً في صنع خصومٍ جُدُدٍ في محيطه المباشر بالكامل، بدءاً بنا نحن المغاربة، ومروراً بتونس التي قوّض تحربتها الديمقراطية بدعمه للظاهرة قيس سْعَيَّد، الذي باع تونس وحوّلها إلى ولاية جزائرية طمعا في حفنة من البترودولار وبعض زخّات من الغاز، الذي لم يعد يصلح منذ اختطاف العسكر لدواليب الموراديا إلا للإرشاء وشراء الذمم، بدلا من استثماره في تحسين ظروف العيش لأصحابه الشرعيين، وهو نفس الغاز الذي ذهب حوالي نصف مداخيله، برسم نصف القرن المنصرم، لتسمين لصوص البوليساريو، وتحويلهم إلى أيقونات مقدسة تعلو فوق كل ثوابت وقوانين الدولة الجزائرية قديمها وحديثها…
ثم مرورا بليبيا المتفككة، التي اختارت الجزائر الانحياز لأحد أطراف الصراعات الدائرة فيها، بدلا من الاجتهاد في جمع الصفوف ولملمة الأطياف التي تركها المقبور معمر القذافي شاهدةً حيةً على سوء تقديره وتدبيره…
ثم مروراً بموريتانيا، التي حاول نظام العساكر العجزة ثنيها بكل الوسائل عن تبادل العون والدعم والسند مع المغرب، فشرعوا يحيكون لها الدسائس، حتى أنهم حاولوا اغتيال رئيسها ولد الغزواني، ولما فشلوا في ذلك ونال منهم اليأس، لجأوا إلى المكيدة، بالعمل بكل وسائل الترهيب والترغيب والإرشاء للإفراج عن الرئيس السابق الفاسد، وإشراكه عنوةً في الانتخابات الرئاسية الوشيكة، ثم محاولة التدخل بعد ذلك بالمال الحرام، المسروق من مقدَّرات الشعب الجزائري المغيّبةِ إرادتُه، لجعله الفائز القادم نظراً لفساد ذمته وبيعه مواقفَه لذلك النظام وميليشياته، الإرهابية بكل المقاييس… ولكنهم فشلوا في ذلك كله لأن المبني عل الباطل لا يؤول إلا إلى بُطلان!!!
ولأن الخير الجزائري لابد له كالعادة أن يكتمل، فقد أفلح نظام الكابرانات في استعداء الأتظمة الثورية الجديدة والواعدة والفتية في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهاهو اليوم يرتكب نفس الخطأ الفادح مع الرئيس السينغالي الجديد، بسبب لعبه دور القِوادة لفائدة ماماه فرنسا، فكان نصيبه من الردع والإبعاد كنصيب هذه العجوز الشمطاء المنافقة، التي نجح رئيسها المراهق ماكرون في النزول بها إفريقياً، وحتى أوروبياً ودولياً، إلى أقصى ما وصلت إليها فرنسا من التردي والانحطاط في تاريخها الحديث… ولأن النحس جزائريُّ الجنسية، وبكل تأكيد، فقد زادت الجزائر بدعمها لفرنسا الإفريقية في إغراق نفسيْهما معاً في أتون إفريقي لم تعودا تستطيعان مجاراته ولا اللحاق به، بينما إفريقيا تسرع الخٌطا بعيداً عنهما معاً بشكل خاص، أقصد فرنسا وابنتها الجزائر!!!
بعد هذه الآطلالة على ثلاث علامات، لا غير، مِن علامات التردي الجزائري إلى أسفل سافلين، ومِن مَكامن ومظاهر سوء أحوال البلد ونظامه وأهله وبَنيه، داخلياً وخارجياً، ماذا بقي للمغرب أو الإمارات، أو حتى إسرائيل، أن تفعله لتهديد الأمن والاستقرار الجزائريَيْن، على حد قولهم، في بلد عافه الأمن والاستقرار وفرّا منه فرار السليم من المجذوم، في انتظار الأسوء؟!!
لعمري فإن الجزائر، الآن، في نظري المتواضع، مقبلةٌ على الدخول في “لعبة السقوط الحر”، التي تقوم على أن يترك اللاعب نفسه يهوي من عَلِ مُغْمَض العينين، وكله يقين بأن مَن حوله سيتسابقون إلى تَلَقُّفه في سقطته فيَحُولون جميعاً دون إصابته بأي سوء… هذه اللعبة يمارسها بعض المرضى النفسانيين تحت إشراف طبيبهم النفسي، لاستعادة الثقة بالنفس، والأكثر من ذلك، لزرع بذور اليقين في نفس المريض ووعيه بالانتماء لمجموعة تُبادِله المحبّةَ والمودّةَ ولا تقبل ولا تغامر بتركه يسقط إلى الأرض، وبذلك تكون الثقة مكرَّسةً على الجانبين، اللاعب وهو يهوي إلى أسفل مغمض العينين؛ والمجموعة المحيطة به وهي تسارع إلى التقاطه قبل أن يصل إلى الأرض!!!
الفكرة واضحة بكل تأكيد لكن، مَن سيتلقّف الجزائر ويلتقطُها، في محيطها السالف ذكره قبل أن تسقط، حتى لا تهوي وتصل إل القعر وتقع في المحظور، وحتى لا تصاب من الكسور والرضوض بما يستحيل بعد ذلك تضميضُه وجَبْرُه؟!!
مَنْ سيفعل؟.. ذاك هو السؤال!!!
__________
محمد عزيز الوكيلي
إطار تربوي.