هل يستطيع الواحد منا، أو الواحدة، أن يفتحَ حاسوبه أو تلفزته الرقمية أو هاتفه الذكي، ثم يعتبرَ نفسه، كما كان الأمر في السابق، بإزاء نافذة تفتح آفاقه المعرفية نحو عالم زاخر بالأحداث والمواقف والدروس والعِبَر؟
هل يستطيع هذا المرء أن يعتبر وسيلة الإعلام والاتصال، الموجودة بين يديه ورهن إشارته، بمثابة شاشة أو مرآة صادقة تنقل إليه، أو تنقله، من حيث يدري أو لا يدري، إلى ماجريات الواقع كما هي، بدون روتوشات ماكرة أو مُغرضة، مقصودة، تُعرّي شيئاً وتُخفي أشياءً، وتُقدّم أطباقاً من الأنباء والتحليلات والتأويلات يُراد لها قبل كل شيء أن تُكَيِّفَ فهمَه ورؤيتَه، أو موقفَه، من أمرٍ من الأمور دون أن يشعر باليد الخفية التي تدفعه برفق شيطاني من الخلف، فينساق معها في فهمٍ يُخيّل إليه أنه فهمُه هو، أو في موقفٍ يعتقده موقفَه هو، بينما هو في حقيقة أمره قد تحوّل، بفضل التوليفات التواصلية السائدة والمهيمنة حالياً، إلى روبوت بشري لا خِيارَ له بكل المعايير؟!
وبمناسبة ذكر وسائل التواصل، والمقصود بها “وسائل التواصل الاجتماعي” بالذات، ألا يُعتبَر فرطُ انتشارها وفرطُ سيطرتها على الفضاءات الإلكترونية والرقمية إمعاناً في تجريد اللاجئين إلى خدماتها من حرية الاختيار لديهم، ومن قدراتهم الأصلية والأصيلة على التمييز بين الغث والسمين فيما يُلقى إليهم من اطباق لا يعلم حقيقتها إلا علام الغيوب، ومَن هندسوها وفبركوها لتكون على ما هي عليه من الإغراء والجاذبية والإقناع؟!
مناسبة البوح بهذه الانشغالات، المشروعة بكل تأكيد، أنني كلما فتحت هاتفي الذكي، الذي بتّ أشك في ذكائه لفرط اشتماله على كل تلك الفبركات الفاضحة والمتناقضة، أُلفي نفسي أمام عناوين برّاقة معظمُها صادِم، من قبيل: “الانقلاب الفجائي في مصر”، و”الموت الفجائي لرئيس دولة من الدول الشقيقة أو الصديقة”، و”القتل العمد لزعيم من زعماء هذا العصر”، و”الانفجار المُهْوِل في محطة من محطات الطاقة النووية في أحد البلدان المتقدمة”، و”نشوب حرب مدمرة بين جاريتين” أو “بين طائفتين تحت سماء نفس الوطن”… غير أن وسائل الإعلام الرسمية في كل بلدان العالم لم تَرَ ولم تسمع شيئا من هذا كله، لأن كل هذا بكل بساطة لم يكن سوى كذِباً في كذِب، وافتراءً لا مبرر له ولا دافع، اللهم إلا ما يسكن في نفوس صانعيه وناشريه من أمراض نفسية وعقلية وسلوكية، لا يجوز المرور عليها مر الكرام، لأنها تشكّل مساساً صريحاً ومُبْرِحاً باستقرارنا النفسي، وأمننا الروحي، وسلامتنا العقلية… ولأنها في نهاية المطاف تَسْحَبُنا سَحباً مُفاجئاً وعنيفاً من أحلام لذيذة نسكن إليها عادةً، بأننا في عالم طبيعي بهدوئه ودِعَّته وأمنِهِ وأمانِه، بل تزيد على ذلك بتحويل عالمنا هذا إلى بحر هائج تحكمه تيارات هوجاء، وتسوده أمواج عاتية مُتلاطِمة، رغم علمنا السابق واللاحق بأن ما تبثه تلك المواقع والقنوات إنما هو محض كذبٍ ليس إلاّ!!
الموضوع شائك ومثير للقلق فعلاً، لأن ما يثيره من المخاوف يسري بين المُتلقّين بطريق العدوى كما يفعل الوباء، وقد صدق وأصاب مَن أطلق على وسائل التواصل الاجتماعي وصف “قنوات الوباء الاجتماعي”، على الأقل في صورتها الراهنة!!
الطامة الأخرى، أنّ المتتبع يكاد يعجز وسط هذا الزخم المتقلّب من المواقع الإلكترونية والرقمية الحربائية، والفاسدة بصريح العبارة، يَصير من الصعب عليه العثور على مصادرَ مَوْثوقٍ بها وذاتِ مصداقية، وخاصة في غمرة صمت ثقيل ومطبق لوسائل الإعلام الرسمية القُطْرية والقومية والدولية، وهذا صمتٌ منطقيٌّ وبديهيٌّ لأن الأخبار الزائفة التي تضرب بها وسائلُ التواصل الاجتماعي رؤوسَنا وقِفانا لا تستحق اِلتفاتَ مصادر الأخبار الرسمية وانتباهَها، ولذلك تتركنا لقمةً سهلةً وسائغةً في أيدي صُنّاع الرداءة، الذين امتلأتْ بهم الفضاءاتُ الإعلاميةُ إلى درجة الغثيان!!
ومرة أخرى، ربما ستكون بعدها مرات متتالية قد يَعِزُّ عَدُّها، نطرح السؤال تِلْوَ السؤال، عن ذاك الذي ينبغي أن تفعله مؤسسة مثل “الهيأة العليا للاتصال السمعي والبصري” أو أي هيأة أخرى تَحُلّ مَحلَّها أو تُكَمِّلُ مَسْعاها، في مثل تلك الحالات البئيسة، دفعاً لهذه الرداءة الطاغية، ومحاربةً لذلك الهجوم السافر لكل أشكال الكذب والنصب هذه، ولهذا المساس اليومي، المتكرر والخطير، بسلامتنا النفسية، واستقرارنا الوجداني، وهدوئنا الروحي، الذي بتنا نَذْكُره بين الحين والآخَر على سبيل التمنّي وليس أكثر… ومرة أخرى.. هل إلى جوابٍ مِن سبيل؟!
____________
محمد عزيز الوكيلي
إطار تربوي.