المصيبة بدأ التخطيط لها مباشرة بعد حرب الرمال وانطلاق تلك الصرخة المهينة: “حكرونا لمراركة”… صرخة حملت من الحقد والضغينة اكثر بكثير مما أوحت به في إبّانها من الانكسار والهزيمة!!!
في حرب الرمال تلك، كان المغرب يحارب الجيش الجزائري معززا بكتائب من جيوش كوبا ومصر، وبعدها في معركتَيْ أمغالا الأولى والثانية، انضافت إليهم ليبيا المنتفخة ببترولها ومستودعاتها الحبلى بكل أنواع الأسلحة التي كانت تذهب لقاء اقتنائها ملاييرُ البترودولار من خزائن رئيس أخرق كان يلهو بمقدّرات الشعب الليبي ويشارك بوخروبة كراهيته المَرَضية لكل ما هو مغربي، وللنظام الملكي بتحصيل الحاصل، وللمغفور له جلالة الملك الحسن الثاني بصورة أخص واكثر عمقاً!!!
عندما انطلقت تلك الصرخة المرفقة بالتباكي على كرامة كاذبة ومفترَى عليها، كان القائل يعلم انهم جميعا بلا أدنى كرامة، لأنهم لم يستطيعوا تحقيق استقلالهم من ماماهم فرنسا، وإنما دخلوا معها في لعبة بليدة وفي منتهى الغباء السياسي، وثّقتها اتفاقية إيفيان، التي ستظل الجزائر بمقتضاها فرنسيةً مرهونةً لخمسين سنة أخرى، أو أقل قليلا، وبالتالي فأي كرامة عند من هو مجرد “عبد مشرّط لحناك” عند ساكنة الإيليزي، الذين تحولوا بدورهم إلى كراكيز فجّة منذ ذهاب أهرامات فرنسا بدءاً بصانع الجزائر الجنرال ديغول، ومرورا بجيسكار ديستان وفرانسوا ميتران وجاك شيراك… قبل أن يظهر المسخ الفرنسي الجديد والمتوالي متجسِّداً في أشخاص مثل ساركوزي وهولاند والفتى المراهق والفاشل ماكرون… وكأن الأم الفرنسية ليست أحسن حالا من لقيطتها الكرغولية، إذ تنافست الإثنتان في إنتاج أسوأ الحكام والقادة بكل أريحية!!!
خلاصته، في هذا الإطار التاريخي الملتبس، انطلقت في الجزائر الفرنسية، أو لنسمّيها “فرنسا الشمال إفريقية” مخططات جهنمية قائمة على إنتاج وتخريج وترويض أجيال حاقدة على كل ما هو مغربي، حقداً مرَضيا يتخطى حدود الهوس، ويتعدى معايير الوسواس القهري، مع العمل على تكريس ذلك عمليا وبالملموس في مناهج التربية والتعليم والتكوين، بداية من أطوار الطفولة الصغرى، في الرُوض ودُور الحضانة، مروراً إلى الابتدائي، فالثانوي وما بعده… ويا ليت لو كان ذلك يتم على أيدي اخصائيين تربويين كما كان يفعل مثلا حزب البعث في عهد منظّره ومربّيه ومعلمه “ميشيل عفلق” في “شامِ” خمسينات وستينات القرن الماضي، حيث أنتج هذا الأخير جيلين من البعثيين على الأقل، اليساريين التقدميين والثوريين الانقلابيين… ولكنهم كانوا بموازاة ذلك، شباباً مهذّباً دمثَ الأخلاق وفي غاية التحضّر… بيد أن المصيبة أن هذا المخطط تم تطبيقه بالجزائر الفرنسية على أيدي يأجوج ومأجوج مخابرات عبلة، التي أنشأها بوخروبة أسوأ تنشئة، ودرّبها بأيدي كوبية ومصرية ناصرية وسوفياتية، وماذا كان في إمكان مثل هذه المرجعيات أن تنتج غير دمار العقول وخراب الذمم، مع فساد أخلاقي ليس له نظير، وهذا بالذات، هو أصدق ما يمكن أن يوصف به حكام جزائر اليوم ومخابراتهم وكل قواهم الظاهرة والخفية!!!
الأهم في كل هذا المسار المظلم، أن شيئا اسمه النخبة المثقفة اختفى نهائيا من جارتنا الشرقية على مدار ثلاثة أجيال ونيّف، ولم يسلم من هذا المصير المعتم سوى قلة قليلة من مثقفي المهجر، الذين أغلب الظن أنهم أسلموا أرواحهم لبارئهم، وإن بقي منهم أحد أو آحاد نادرون فإنهم سيكونون في أرذل العمر ولا يعلمون من بعد علمٍ شيئا!!!
نعم، هذه هي جزائر تبون الجديدة:
– عسكر يعربد ليل نهار ويتخذ قراراته المضحكة وهو في حالة سُكْرٍ طافح، ولذلك يتراجع عنها ويستبدلها بين كل ليلة حمراء وأخرى؛
– إعلام “شيّات”، باع ضميره وذمته وتنازل عن كرامة لا يمتلكها أصلاً بمجرد بدئه في العزف على أوتار الرداءة المتخطية لكل المقاييس؛
– جيش منفوخ بالكذب وبخردة روسية عافتها جيوش القيصر العصري، الروسي، فأثقلوا بها كواهل جنود شباب يعافون هم الآخرون ضباطَهم وجنرالاتِهم العجزة، الذين يندر ان يتحرك أحدهم خارج مكتبه بلا حفّاظات واقية من البلل ومن غيره؛
– شعب مغمى عليه من فرط تعبه وضجره من طوابير مؤبّدة تتحدّى جيوبه المثقوبة، وتؤثث الساعات الجهنمية الطوال التي يقضيها تحت لسع البرد القارس ليلاً، وأشعة الشمس الحارقة نهاراً، من أجل “الظفر” بكيس حليب أو كيلو عدس أو فاصوليا أو سميد؛
– غياب كلي وعدمي لنخبة يمكن لها ان تفكّر وتدبّر وتبدي أدنى مظاهر التفاعل مع هكذا واقع في غاية المهانة… وهذه بلا مغالاة أم المصائب والنائبات، لأنها تُفصِح عن وجود شعب يزيد تعداده على الأربعين مليون نفر فاقدٍ برمّته لكل شروط الحياة الحيوانية، فما بالنا بنظيرتها الإنسانية الكريمة!!!
هذه الجارة، بهذه المقاييس العبثية، وبهذه الدونية المتخطية للدرك الأسفل من المهانة، يجد نظامُها، الراعي لبقائها على ما هي عليه مما سلف وصفه، الجرأةَ ليُناصِرَنا العداءَ جهارةً، وليخرق في تعامله معنا نحن المغاربة كل القوانين والأعراف المتواضَع عليها عالمياً وكونياً، رغم كونه لم يحقق من وراء ذلك سوى البَوار السياسي، والعزلة الدبلوناسية القاتلة، وهاهو الآن يجعل الخير خيرين بانتهائه إلى عزلة رياضية بعد أن جعل كل الأمم تشمت فيه وتضج بالضحك على غبائه وضحالة فكره وفهمه وسلوكه!!!
ومرة أخرى، يقع كل ذلك في غياب نخبة حرص هذا النظام المريض عن قصد، وبسبق الإصرار والترصد، على وَأْدِها في مهدها، ومنعها بذلك من أن ترى الحياة وتضطلع بدورها الطبيعي كما تفعل النُّخَب في كل الشعوب والأمم… وتلك أعظم مصيبة ابتُلِيَتْ بها تلك الجارة… المسكينة بكل المعايير!!!
___________
محمد عزيز الوكيلي
إطار تربوي.