صحيح أن الفساد السياسي في المغرب الحديث من الموروثات التي خلفها ما يعرف بعهد السيبة ( عهد القواد والباشوات وشيوخ الزوايا) وما عمل من اجله الاستعمار الفرنسي الذي صنع نخبة من عملائه ومرنهم على الطرق الخبيثة للاستمرار والاستغلال . لكن يمكن القول ان الفساد السياسي المتطور في المغرب المعاصر دشن في السبعينات ، دون الكلام على الفساد السياسي الذي كانت تمارسه الأحزاب الإدارية منذ 59 ( الحركتان – الشورى – الجبهة …) التي لم تدخر جهدا ولا اجتهادا في خدمة المخزن لأنها كانت ابنته الشرعية،ففي السبعينات من القرن الماضي بدأ النظام في محاولة تركيع حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان حزبا معارضا بكل المعايير لا من حيث حركيته (تغلغله في الحركة النقابية) وحمله آمال المقهورين ولا من حيث خطه الإيديولوجي المعلن. لكن النظام استطاع ان يزرع الفساد بداخله بطرق ذكية ، فظل يتآكل من الداخل شيئا فشيئا حتى فقد ريادته ووصل الى ما هو عليه اليوم ( قطعة عادية في رقعة الشطرنج السياسي )، كانت الصدمة القوية حين دخل هذا الحزب الحكومة من غير أن تدخله إليها صناديق الاقتراع نتيجة ما اصطلحوا على تسميته بالتناوب. وهكذا، بين عشية وضحاها، صار المغاربة يسمعون وزير المالية المنتمي لحزب الاتحاد الاشتراكي لا يتكلم إلا لغة الإكراهات المالية والديون الخارجية وضرورة التعقل ووضع "الحزام على البطن " حتى تمر الأزمة الظرفية.بعدما كان قبل أسابيع فقط، ومنذ عقود لا يتكلم إلا بلغة "أن المغرب غني وأن المال العام يبذر ويسرق وأن توزيع الثروة غير عادل بشكل كبير…" فدخل المغرب بهذا مرحلة جديدة بدأ فيها المواطن يفقد كل أمل وثقة في النخب السياسية. وصارت السياسة لا تعني بالنسبة اليه سوى وسيلة للتسلق والتقرب من السلطة . وفعلا كانت تلك البداية لاستقطاب مجموعة من اليساريين بمن فيهم الجذريين الذي نابوا عن المخزن في شرعنة الاستغلال والفساد من خلال تواجدهم المقصود في مجموعة من الاجهزة ( المجلس الاستشاري لحقوق الانسان – هيئة الانصاف والمصالحة …) وتحول كثير من أقوى المعارضين للنظام إلى أتباع أوفياء بعد إن كان كريما معهم أكثر مما "تقتضي الأصول. ولضمان الانصياع لا يفتأ النظام يفرخ احزابا قبل كل انتخابات ويبوؤها المرتبة الاولى ( الاحرار – الاتحاد الدستوري – الاصالة والمعاصرة ..) بالمقابل ومن باب (الوقاية خير من العلاج) يحرص النظام على تفتيت أي حزب عقابا له على زلة لسان او موقف ما لا يخدم توجهات النظام . كما استطاع النظام ان يضع للاحزاب كلها نفس البرامج والتوجهات ونفس الاساليب في التواصل (الكل يدعى محاربة الفساد ونصرة الاصلاح .الكل يحارب الاستبداد ويدعوا للديمقراطية ) وهكذا اصبح هم أي (حزب) اليوم هو ايجاد طريق يتقرب به من السلطة. وينتظر الوقت الملائم لجمع اصوات المواطنين من أجل قضاء الحاجات الخاصة به. مما نتج عنه هروب الناس عن صناديق الاقتراع بشكل فظيع واصبحت الانتخابات تجرى بأقل من 20 في المائة من المواطنين . فقط ليقال بأن الديمقراطية المغربية بخير . لان المنتخبين لا يمارسون من الناحية العملية اية مهام بحرية . ففي كل جماعة يوجد رئيس ومجلس يقال بانهما منتخبين من طرف الشعب،لكنهما عمليا موضوعان تحت رحمة طاقم مهم من موظفي وزارة الداخلية المعينين . فالمجلس الجماعي يعمل تحت رحمة القياد والخلفان والباشا والعامل والولي ..إذ أن الجهاز الاقليمي لوزارة الداخلية يهيمن على قسط كبير من التسيير بل يشرف على بقية القطاعات.وتلك واحدة من علامات ما يسمى بالخصوصية المغربية.