قليلة هي الدول.. والدولة هنا بتعريف القانون الدستوري.. التي تجعل الباحثين والدارسين في مجالات السياسة الدولية ينقلبون على أنفسهم.. لا يلوون على شيء.. لأنهم يفاجَأون بالوقوف أمام ظواهر لا يمكن بأيّ حال من الأحوال إيجاد توصيف لها في كل قواميس العمل السياسي الدولي.. لأنها بكل بساطة تنسلخ من جُبَّةٍ يُشَرعِنُها القانون.. وتُسبغ على ذاتها أشياءً أخرى هي أقرب ما تكون إلى “خَرمَزةٍ” في الأشكال والألوان لا ترتديها عادة إلى نزيلات مستشفيات الأمراض العقلية المأساوية والخطيرة!!!
أخبرَنا التاريخُ القديم عن نماذج شكّلت ظاهرةَ عصرِها بامتياز.. كفرعون الذي نصّب نفسه معبوداً بغير حق… وكالنمرود.. الذي أراد الارتقاء إلى أعلى علّيين.. ليقارع رب العالمين…
وأخبرنا التاريخ الوسيط عن نماذج أغرب.. كالبابوية.. التي اجتهدت في إصدار وبيع “صكوك الغفران”.. وتوزيع “تذاكر الولوج إلى حدائق الرحمن”… أو كنيرون.. الذي أحرق روما من فرط عشقه لها…
وأخبرنا التاريخ الحديث عن أصناف أشد غرابة لأنها خلطت بين الفعل والفكر.. أمثال ماركس وجنته الشيوعية.. التي نبغ في بحبوحتها أعلامٌ للبَغْيِ دمويون كَلينين.. وستالين.. والأخرق خروتشوف.. ثم بعده بوتين.. “الفاتح” العظيم…
ونقَل إلينا التاريخ الحديث.. أيضاً.. بصمات رديئة ومهينة كإنجازات هتلر.. وموسوليني.. وبوكاسا.. وكالتُّراث الخميني.. وتراث مُنَظِّري ما سماه البسطاء “صحوة إسلامية” أنتجت لنا القاعدة.. وداعش.. وأسماء أخرى لا تعدِم مَواقعَ لها في قائمة هذه المهازل الشيطانية!!!
بيد أن التاريخ في مختلف عصوره.. وعهود أبطاله وصانعيه.. لم يقدّم لنا نموذجاً واحدا يمكن أن نقيسه بشكل من الأشكال على “الظاهرة الجزائرية”!!!
“الظاهرة الجزائرية”.. يا كرام.. ينبغي تصنيفُها خارج المقارنة.. وخارج كل المعايير.. وتستحق التتويج في سِجِلّ غينيس… فكيف ذلك؟
بدايةً.. ينبغي استثناء قلة قليلة من أبناء الجزائر.. والتي يبدو أنها منبهرة ومصابة بدهشة عطّلت وعيَها بما يقع.. حتى أنها
ظلت على امتداد الزمن وتَعاقُب الأحداث بلا أدنى موقف… إنها الطائفة المثقفة.. الغائبة عن الوعي.. ولا أقول “المُغَيَّبة” حتى لا أجدَ لها مبررا لا تستحقه!!
وعلى رأس هرم الظاهرة الجزائرية يأتي نظام الحكم العسكري وحَواريوه وفي طليعتهم “رئيس الدولة”.. مع الاعتذار لهذا المنصب.
دولة بلا تاريخ.. وإن كان هناك من تاريخ.. فإنه سيكون لشعوب سكنت التراب نفسه.. وكانت رغم تناحرها فيما بينها تجتمع على قاسم مشترك هو تَوْقُها للحرية والتحرر.. دون انتماء صريح لأي كيان يمكن وصفه بالدولة.
“الدولة” الجزائرية يا فضلاء.. تسرق تاريخ الجيران.. تسرق أجزاء من ترابهم الوطني.. تسرق تراثهم الثقافي والفني.. من غناء.. ورقص.. وتشكيل… حتى عاداتهم وتقاليدهم.. من لباس.. وطبخ.. وأفراح…
تسرق حتى قراراتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن طريق نقل وتقليد تصاميمهم ومشاريعهم في مختلف هذه المجالات…
ولكي يزداد الطين بلّةً.. ويزداد هذا المرض النفسي والعقلي تفاقماُ.. يأتي نظام الجزائر وحتى مثقفوها بحماقات غير مسبوقة بكل تأكيد:
– رئيس أركان الجيش يحضر كل أنشطة رئيس الجمهورية حضورا يُحَوِّل فيه هذا الأخير إلى مجرد ظل!
– ادعاء حيازة موقع الريادة والقوة الضاربة في شمال إفريقيا في وقت اشتهرت فيه البلاد بطوابيرها المليونية.. لشراء زيت المائدة.. والعدس.. والسميد.. والحليب الذي أصبح له ضحاياه من القتلى والجرحى خلافا لما يقع في كل بلاد الدنيا.. في وقت لا تعيش الجزائر فيه حربا غير حربها على ذاتها…
– اختزال كل قضايا الجزائر/الدولة ورهاناتها.. وحتى شرفها.. في قضية “الصحراء المغربية”.. وفي تكثير وتنمية وتسمين فئران في مختبراتها السياسة الفاشلة يسمونها مجازاً “البوليساريو”…
– تطاوُل إعلامِها الكارتوني (إعلام ميكيات) على المملكة المغربية بكل مؤسساتها ورموزها.. وكأنّ الجزائر تثأر لنفسها لعدم توفرها على أي رمز للسيادة ما عدا من تسميهم شهداء الثورة.. الذين يزداد عددهم مع توالي الدقائق والساعات والأيام وكأنهم يتناسلون داخل مخادعهم الأبدية…
– تطاول “فقهائها” على الدولة المضيفة لحجاج الأمة بوصفهم جهارةً بالصهاينة داخل خيمة نصبوها لأنفسهم حتى لا يختلطوا بالواقفين في عرفات.. لاعتقادهم بأن عرفات كانت جزائرية الأصل قبل أن تُسرق منهم.. كما هو شأن الكعبة.. وأهرامات الجيزة المصرية.. وبرج إيفل الباريسي.. والكتبية المغربية…
– ولكي تكتملَ الفرحة.. الهستيرية.. خرج في ذات الخيمة.. في يوم عرفات.. إمام لهم رضع من ثدي النظام الحاكم ذاته.. ليحكي عن رمز من رموزهم الدينية قال إنه بمجرد نيل الجزائر لاستقلالها (المزعوم.. لأنه كان تقريرَ مصيرٍ وليس استقلالاً) خاطب رسول الأمة وهو واقف بالحرم الشريف مرددا أمامه عبارةً في غاية الهوس.. اتضح بعد سويعات أنها مسروقة من أغنية لأحد مطربي الجزائر الفاشلين قال فيها مخاطبا طفلا جزائريا افتراضيا: يا محمد مبروك عليك.. الجزائر رجعت ليك!!! ورددها الشيخ كما لو كانت موجهة رأسا للرسول الأكرم!!!
نهايته… ألا يبدو من الإجراءات الحداثية.. التي تليق بهذا العصر شديدِ التًّمَيُّز من حيث تَطَوُّرُ وسائلِه وآلياتِه.. وحتى لا تضيع منا “جزائرُنا الثوريةُ” في غمائم الهوس والهذيان.. أن تبتكر إحدى المنظمات الأممية المختصة والمتخصصة “مارستاناُ دوليا”.. أو بالتعبير المتعصرن “عيادةً للصحة النفسية والعقلية للدول”.. تستضيف قادةَ الجزائر وحكامَها ورموزَها وحتى مثقفيها الصامتين.. دفعةً واحدة.. بوصفهم جميعاً.. بالتضامن.. نزيلاً أوّلَ في هذه المؤسسة الحداثية الجديرة فعلا بالتخمين والتخطيط والبرمجة والتنفيذ؟!
من يدري.. قد تجد الجزائر نفسها بهذه الوصفة الثورية.. فتعود إلى رشدها.. أو يعود هذا الرشد إليها بعد هِجران السنين… من يدري؟!!
محمد عزيز الوكيلي
أستاذ باحث