“أقسم بالله العلي العظيم لو يفتحوا لينا الحدود بين مصر وغزة… كاين بزاف ما نديرو… كاين بزاف ما نديرو”…
“أقسم بالله العلي العظيم.. أنا تعهّدتُ… والجيش الوطني على كامل الاستعداد (!!!) لو فتحوا لنا الحدود مع غزة وسمحوا لشاحناتنا بالمرور… (أيْوَة !!!) لقمتُ بإنشاء ثلاثة مستشفيات في عشرين يوما… ولأرسلتُ مئات الأطباء… ولقمتٌ بإعادة إعمار ما هدمه الصهاينة بغزة… احنا لن ننسى الفلسطينيين عموماً.. ولن ننسى غزة على الخصوص”… بْلا بْلا بْلا بْلا!!!
هذا، بطبيعة الحال، ملخص صراخ الرئيس عبد المجيد تبون!!!
بالله عليكم، أليس هذا كلام شخص رُفِعَ عنه القلم… لكن كيف ذلك؟!
اولاً: هذا خطاب لتبون في بداية حملته الانتخابية، التي يبدو أنها ليست لها أيّ بداية معلومة. وبالتالي فالمنطق يقتضي أن يكون موضوع الخطاب ذا علاقة بالسياسة الداخلية لهذا الرئيس ومَن معه ومَن يقف وراءه مِن أرباب الحفّاظات المبللة… فالناخبون يفترض أنهم ينتظرون أن يخبرهم المترشح للعهدة الرئاسية الثانية عمّاذا سيفعله لفائدتهم، لإخراجهم من جحيم الطوابير، ومن جهنّم الغلاء الفاحش والذي لا نظير له في عالم اليوم… ان يقول لهم مثلاً كيف سيحقق الاكتفاءات الكفيلة بالتقليص من نسبة البطالة، وبجعل شباب الجزائر يُقلِعون عن هواية الارتماء في امواج البحار بحثا عن لحظة راحة أبدية بين أنياب أسماك القرش المتوسطي الشهير بنهمه وعدوانيته…
هل يعلم هذا الرجل أن الجزائريين لا ينتظرون منه بأي حال من الأحوال أن يكلمهم عن دعم صمود غزة، وتقرير مصير البوليساريو الذي أثخن في امتصاص أرزاقهم، وأكل مقدّراتهم فلم يترك منها إلاّ ما سرقه الجنرالات ونهبوه ووضعوه في حسابات أبنائهم خارج الوطن!!
ثانياً: وعلى افتراض أن الحملات الانتخابية ذات علاقة بالسياسة الخارجية بشكل أو بآخر، فليس من اللائق يا تبون أن توجه الإهانة لدولة شقيقة لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بهذه الحملة، هي جمهورية مصر العربية، فتقدمها لمتابعيك كما لو كانت هي التي تمنعك من تقديم المساعدات لأهل غزة… والمصيبة أنك لا تقول ذلك بلسان مترشح عاديٍّ للانتخابات الرئاسية، بل كرئيس يمارس كل صلاحياته الرئاسية سياسياً، ودبلوماسياً، وكذلك عسكرياً بصفته وزيرا للدفاع وقائدا أعلى للجيش… فما الذي تنتظره من رئيس الدولة المصرية وأنت تتهمه ضمنيا بمنع الجيش الجزائري الجاهز من تقديم دعمه لغزة وأهاليها؟!!
ثالثاً: إن الرجل يصرخ ويعيد الصراخ بأن الجيش في كامل الأهبة والاستعداد… مما يوحي بأن القادم لن يكون سوى خوض معركة الكرامة لإنقاذ غزة وفلسطين، ولإلقاء الإسرائيليين في عرض البحر… وبالمناسبة، لجر جمهورية مصر إلى حرب رابعة ما كانت في حسبانها بأي صورة من الصور… ثم إنه يختم صراخه المدوّي بما يشبه إلى حد التطابق قصة “الجبل الذي تمخض فولد فأراً”، عند قوله بالسماح بدخول شاحنات جيشه لماذا؟ لبناء ثلاثة مستشفيات في ظرف عشرين يوماً وليس أكثر…
حسنا، هل يعلم هذا الرجل أن الطريق إلى غزة مفتوحة على الدوام بحراً وجواً، وأن بإمكانه إرسال جيوشه ومساعداته عبر البحر المتوسط إلى ميناء غزة مباشرة، وهو الميناء الموجود حاليا تحت هيمنة المارينز الأمريكي، وأنه ما دام سيكتفي ببناء ثلاثة مستشفيات فلن يحتاج سوى إلى ترخيص بسيط لأحد ضباط صف قوات المارينز لكي ينفذ مشروعه الإنساني، الذي يفترض أن تباركه أمريكا وقواتها المرابطة بالمنطقة، لأن ذلك من شأنه أن يضفي لمسة إنسانية على وجودها المريب هناك، بوصفه وجوداً مبيَّتاً وداعماً لإسرائيل بالذات؟!
رابعاً: ألا يعلم هذا الصارخ وهو يتعهد بإنشاء ثلاثة مستشفيات، في ذلك المظروف الزمني القياسي، بأن الدراسات التي أجريت حتى الآن على أطلال مدينة غزة أجمعت على أن مجرد إخلاء المدينة من أطلالها وبناياتها المدمَّرة يحتاج إلى أكثر من عشر سنين من العمل الدؤوب، مجرد إخلائها من ذلك الركام المُهْوِل من الحديد والإسمنت والحجارة ومن الحُفَر السحيقة، حتى يتسنى اتخاذها بُقَعاً صالحة لإيواء بنايات جد هامة وحيوية كالمستشفيات؟! ثم هل يعلم هذا الرجل أن المستشفيات ليست مجرد بنايات من حديد وزجاج وحجارة، وأنها تحتاج أكثر من ذلك إلى تجهيزات أساسية من مياه، وكهرباء، وغاز، ومن مولدات للأوكسجين والهيدروجين وغازات أخرى، ومن أجهزة للإنعاش، وأخرى لإجراء العمليات الجراحية الأكثر تعقيداً…
وهل يدرك هذا الخطيب المتلسّن بأن الحصول على هذه اللوازم وإحضارها وإعدادها للاستعمال يستلزم وحده أكثر من الأيام العشرين التي نطق بها بلا أدنى وعي بما يقوله، ولا حتى بما يريد قوله؟!!
خامسا: وما دخل الجيش الجزائري الذي وضعه هذا الرئيس في حالة استنفار قصوى، كما أوحى بذلك خطابُه الغريب هذا، ما دخله في بناء مستشفيات كان من الأليق والمعقول أن تضطلع بإقامتها مؤسسات مدنية إنسانية كالهلال الأحمر الجزائري، وكجمعيات المجتمع المدني، بالشراكة والتعاون مع الصليب الأحمر الدولي ومع غيره من المنظمات الرديفة؟!
وأخيراُ وليس آخراً، وحتى يعلم الجزائريون المغلوبون على أمرهم، والمستحمَرون بمثل هذا الخطاب إلى أقصى حدود الاستحمار، أن رئيسهم قد رُفِع عنه القلم، وأن العالم كله أضحى متيقنا من حقيقة هذه الحالة التبونية الفريدة، فما عليهم سوى طرح السؤال، وإعادة طرحه، عن موضع دولة مصر في هذه الحملة الانتخابية، وعن دورها، إن هي فتحت حدودها مع غزة أو لم تفتحها، في دعم ترشيح هذا الرئيس اللاصق كالغراء فوق كرسي رئاسة لم يأت للجزائر من ورائه إلى البَوار… ما الذي ستربحه مصر أو تخسره إن هي فعلت أو لم تفعل؟!!
أليس هذا دليل قاطع على أن الرجل، فعلاً، قد رُفِع عنه القلم؟!!
___________
محمد عزيز الوكيلي
إطار تربوي