كيف كان يتم تواصل الأسرى بالعالم الخارجي؟
لم نكن محظوظين مثل الجنود الأسرى بحكم أن بوليساريو تعترف بوجود بعضهم داخل سجونها، على أساس أنهم أسرى حرب، لذا فقد كانت عناصر البوليساريو تعمد إلى إخفائنا عن أنظار وسائل الإعلام والجمعيات المدنية الأوربية والصليب الأحمر الدولي، كنا نعاني الوحدة القاتلة بسبب الانقطاع التام عن العالم الخارجي، فالجنود الذين اعترفوا بوجودهم كأسرى كانوا يتوصلون ويراسلون أهاليهم ولو أن المراسلات كانت وفق قوانين ومساطر تتفنن في إبداعها البوليساريو للحفاظ على ماء الوجه أمام الرأي العام الدولي.
مرت السنين،
وكان بعض ممثلي الإعلام الموالية لهم من المعسكر الشرقي حينها (ألمانيا الشرقية سوريا يوغوسلافيا إيران، كوبا يوميا، ليبيا موريتانيا، اليمن الجنوبية حينها..)، يلجون السجون ، إضافة إلى جمعيات غير حكومية اسبانية وبعضها ايطالية والسويدية…
كنا مدنيين يبعدوننا لكي لا يرونا… والعسكريين يمنحونهم شفرات حلاقة واحدة لكل عشرة أسرى، ومطلوب من كل أسير حلاقة الذقن والشارب والشعر، علما أن الشعر مليء بالغبار و القمل،ومن خالف يلقى العذاب ليستقبلوا الزوار.
ثم بدئوا يقدموننا نحن المدنيين (14) على أساس أننا عسكريين، ومنعوا علينا التكلم مع الصحافة الأجنبية.
وكانوا يرغمون الأسرى الجنود على كتابة الرسائل وفق جدول: أنا فلان أقيم عند الصحراويين كضيف ولو أطلقوا سراحي لن أعود إلى المغرب، إلى أن يستقيلوا بأرضهم، وأنا ادعمهم … وتضع عنوانك، وكان العديد ممن لا تعجبه الرسالة يمدهم بعنوان خاطئ.
وتبعث الرسائل إلى أسرهم بالمغرب عن طريق مكتب مخابرات جزائري بفرنسا، ويعاقبون كل صاحب رسالة تم إرجاعها لسبب خطا في العنوان، كما كانوا يأخذون بعض السجناء ويلقنوهم عبارات تسيء إلى بلدهم المغرب، يرغمونهم على التفوه بها في وجه ممثلي وسائل الإعلام.
مرت سنوات دون أن تعلم أسرتك وخطيبتك المرتقبة بمصيرك، كيف تم التعريف بوجودكم كأسرى وربط الاتصال بذويكم؟
تعرفت إلى جندي مغربي أسير يدعى عبد الله القاسمي من سلاح المدرعات ابن مدينة تاونات، ساعدني كثيرا في إبلاغ صوت المدنيين إلى عدة منابر إعلامية ومنظمات دولية، فقد كنت اكتب الرسائل وكان يبعث لي بها إلى إذاعة فرنسا الدولية، وقد تمت قراءتها من طرف المذيعة فريدة موحى(أظنها مغربية) في إحدى نشراتها الخاصة حينها بإفريقيا، كما راسلت جريدة العالم (لوموند)، وكذا هيئة الصليب الأحمر الدولي.. هذا الأخير الذي ضغط على البوليساريو حتى اعترف بوجود مدنيين معتقلين لديه، وكانت بداية فك العزلة علينا، حيث بدئنا نراسل ذويها عبر رسائل وان كانت لا تعبر بما كنا نعيشه ونحسه.
وعلمت أن أبي توفي، وان أختي الصغيرة تزوجت وأنجبت، كما علمت أن أبي ذاق كل أنواع الفقر قبل أن يرحل إلى الآخرة، وجاءتني رسالة غير متوقعة موقعة من خطيبتي وأبيها سنة 1995 ، يسلمان علي ويتمنيان عودتي، تلك الرسالة التي بقدر ما أسعدتني حيرتني، لان خطيبتي كانت تخاطبني بعبارة (أخي)، فظننت أنها تزوجت وان حلم الصبا تبخر في الفضاء. ولم استطع أن اسألها عن وضعها الحالي، خوفا من أن تكون متزوجة وان أضعها في موقف حرج مع زوجها.
ما هي أسوء أيام السجن التي عشتها ؟
أظن أن أسوء أشهر السجن هي تلك التي قضيتها منذ اختطافي وحتى إحالتي على سجن الرابوني، فأنا لسن جنديا محاربا كنت أتوقع في لحظة اعتقالي أو قتلي، ولم أكن مدنيا أتجول داخل أراضي غير مغربية،ومهدد بالاعتقال في أية لحظة، ولكنني كنت مدنيا في أوائل سنوات شبابي عائد إلى منزلي هاربا من حرارة شمس مدينة طاطا، لأجد نفسي مختطفا أتذوق كل أنواع التعذيب، فوق ارض ليس وحدها الحارقة. ومحروما من كل الأحلام التي عشت في طفولتي ارسمها.
التعذيب لم يتوقف بسبب أو بدون سبب، مؤامرة مزعومة للاحتلال على الأسلحة والهروب يتهم بها بعض الأسرى، فتنطلق عملية التعذيب لتشمل الكل، من تخويفنا، إرغام البعض على الاعتراف بها ومن طلب الموت العاجل، تلقى العذاب الطويل، وغاب الموت.
و بلغ أقصاه خلال حين حرم أسرى سجن الرابوني من الغذاء الأدنى (الخبز أو الأرز)، سنتين من التجويع بعد سنوات من التغذية غير المتوازنة، عاشها السجناء مدنيين وعسكريين على حد سواء بدون قطعة خبز أو حبة أرز، يوميا يعمد طباخو السجن إلى ملء براميل الوقود الفارغة من فئة 100 أو 80 لترا، بالماء والدقيق الفاسد الذي يفرغونه من أكياس كتب عليها (مطاحن سيدي بلعباس)، وفي بعض الأحيان يضيفون الوجبة كثل من الزبدة الفاسدة التي تنفجر علبها بفعل الانتفاخ قبل إفراغها داخل البراميل، ليتم طهي الوجبة المتعفنة، وتقديمها على صحون من الألمنيوم، صحن لكل عشرة سجناء، يشربونه باستعمال علب السردين الفارغة الملقاة هنا وهناك. فقدنا حينها الإنسانية، كنا نتسابق من أجل نيل أكبر كمية من السائل المتعفن.
وقد أصيب العديد من المغاربة الأسرى بعدة أمراض كان أبرزها داء الحفر والذي يأتي بسبب الانعدام التام لفيتامين سين، حيث يتعرض جسم الإنسان لنزيف دموي داخلي وتبدأ العروق في التقطع، وعادة ما تصاب الأرجل في البداية، وينطلق معها المرض ليشمل باقي الجسم، وتوفي العديد بعد أصابتهم بالداء، فيما ضل اثر المرض واضحا على الباقون وكنت من بينهم لكن الله شاء أن تكون مناعتي أكثر قوة، ومنهم من بصق أسنانه وأضراسه.
عندما كانت وجبة الأرز، كان هناك من يستعمل يديه ويضع الأرز بين صدره ولباسه الداخلي، أو بين كفيه ويهرب ليتمكن من سد جوعه.
أصيب الأسرى بالربو والخوف والحمق والشيخوخة المبكرة والانهيارات العصبية، والروماتيزم، وأمراض القلب، وأمراض الجهاز الهضمي التي لم يسلم منها أي أسير. 2400اسير مغربي ضمنهم 500 كانوا بسجن الرابوني، أزيد من عشرين في المائة منهم كانوا داخل سجون ومراكز على مشارف العاصمة الجزائرية، نحن كنا سجناء لدى الجزائريين ولعبة البوليساريو لا بد من وضع حد لها.
هل خضع بعض المغاربة تحت طائلة التعذيب اليومي وأصبحوا موالين للبوليساريو؟
لن أكذب عليك، فمع استمرار التعذيب استجاب بعض العسكريين المغاربة لنزوات البوليساريو، وأصبحوا عملاء لهم، وأنا لن أتردد في ذكر أسمائهم( ذكر للمساء هوية البعض منهم )، والعديد منهم تم الإفراج عنهم مؤخرا.
تقارير يومية تكتبها أيادي مغربية لمغاربة يشاركوننا المبيت فقط، فيما تم إعفائهم من الأعمال الشاقة والتعذيب اليومي.