تعد ظاهرة العنف بصفة عامة، والعنف المدرسي بصفة خاصة، من الظواهر التي استفحلت في السنوات الأخيرة بشكل ملفت للنظر، حتى أضحت مجموعة من المؤسسات التعليمية مجالا للفوضى واللا أمن الذي زاد من تخوف المدرسين والإداريين والآباء، لأن حالات الاعتداء داخل المؤسسات قد ارتفعت بشكل كبير، إذ تم تسجيل ، 800 حالة اعتداء شفوي أو جسدي في الفترة الممتدة من شتنبر 2012 إلى يونيو 2013، أدت في بعض الأحيان إلى القتل، وفي نفس الفترة، سجلت 25 حالة اغتصاب بالمؤسسات التعليمية معظمها بالمدن. ولا شك أن إحصائيات جديدة ستكشف عن ارتفاع حالات العنف بالوسط المدرسي، هذا العنف الذي ينتج عن عوامل كثيرة يتداخل فيها الاجتماعي، الاقتصادي، الثقافي والنفسي، دون نسيان تأثير العنف العالمي على الشباب المغربي، وسنحاول في هذا العرض مقاربة موضوع العنف من زاوية نفسية لنلقي الضوء على دوافع ارتكاب العنف داخل المؤسسة التعليمية.
قبل الحديث عن العلاقة بين العنف وإثبات الذات، لنقدم تعريفا للعنف، كما حددته منظمة الصحة العالمية التي اعتبرته”استعمال قصدي للقوة الجسدية، للتهديدات الموجهة للآخرين أو للذات، أو لجماعات وتجمعات، والذي ينتج عنه أخطار، وأضرار نفسية، ومشاكل النمو، أو وفاة” (منظمة الصحة العالمية 2012)، واضح أن منظمة الصحة العالمية لم تهتم بالعنف الرمزي التي يتمثل في احتقار الآخر وإهانته إما باعتماد اللغة أو اعتماد الحركات. بعودتنا إلى العنف المعتمد في المؤسسات التعليمية، والذي يتخذ أشكال مختلفة، عنف يوجهه الأستاذ للتلاميذ، عنف يوجهه التلاميذ إلى الأستاذ، عنف يسري بين التلاميذ أنفسهم، عنف بين التلاميذ والإدارة، عنف بين الإدارة والمدرسين، عنف بين الأسر والمدرسة…، سنلقي الضوء على الدوافع المساعدة على تفريغ الميولات العدوانية، وسنربطها بمرحلة المراهقة.
تعرف المراهقة بالعديد من التحولات البيولوجية والفسيولوجية والنفسية والاجتماعية التي تحدث تغييرات كبيرة في شخصية المراهق، تتجسد في سلوكات وأفعال ومواقف، ومحور ذلك هو إثبات الذات affirmation de soi، الذي يدفع المراهق إلى إيجاد موقع له ضمن الجماعة التي ينتمي إليها حيث يوظف كل تجاربه وإمكاناته للتعبير عن ذاته بكيفية أكثر حرية بهدف أن تحظى بالاحترام والتقدير، غير أن أجواء العملية التربوية لا تستجيب لهذه الحاجة، التي تصبح حيوية لدى المراهقين، أولا، لأن معظم الدروس لا تراعي اهتمامات المراهقين ورغباتهم المرتبطة بالحياة، وليس فقط بالتدريس، ثانيا، لأن طرق التدريس في مؤسساتنا التعليمية لازالت تقليدية تركز على تمرير المعلومة وشحن الذاكرة…عوض التركيز على المساهمة في فهم حاجيات المتعلمين وإيجاد الوسائل الكفيلة بخلق تعلم مريح، فرغم أن معظم المدرسين يتعرفون على البيداغوجيات الجديدة، إلا أن نسبة قليلة منهم تعتمدها أثناء الممارسة. وتتيح تلك البيداغوجيات الفرصة لبناء المواقف والتعبير الحر عن الأفكار وتعليم كيفية الإقناع، والتدرب على الفكر النقدي… وكلها خصائص تنصهر مع الجانب النفسي، إذ تنمي الإحساس بالثقة في النفس، والقدرة على المواجهة والتعود على حل المشكلات…ولاشك أن تنمية هذه الكفايات لدى المراهق من شأنه أن يصرف النزعات الغريزية العنيفة في اتجاه إيجابي، لأنه يحظى بالتقدير وتؤخذ مواقفه وآراءه بجدية، ويصبح تجسيد إثبات الذات ممكنا. يعاني المراهق المغربي من ضغوطات عديدة ناتجة عن التحولات التي حصلت على مستويات عدة، فعلى المستوى الإجتماعي، حدثت تحولات على مستوى القيم، شرعنت لقيم غير أخلاقية كالغش، والتمييز بناء على الانتماء الإجتماعي، النفاق الاجتماعي….، وعلى المستوى الأسري، أصبحت غالبية الأسر منشغلة بتحقيق الحاجيات المادية، وافتقدت لروح التآزر والتضامن (الاطلاع على واقع التلاميذ في المؤسسات التعليمية يكشف الواقع المتردي والصعب لمعظمهم…)، والأوضاع الأسرية والإجتماعية الصعبة تولد الإحباط، أي حالة من اللاطمئنان العاطفي الناتجة عن الحرمان، والتي تحد من تحقيق الرغبات. فالعديد من المراهقين محبطون جراء معاناتهم مع الأسر، وأيضا الانعكاس السلبي للنظام الدراسي، وتتفاقم مع العنف الموجود في المجتمع بمختلف أشكاله، وتوجد أربع محددات للعلاقة بين العنف والإحباط ( عرضها Muller في نظريته حول العنف). هي قوة الاستثارة العدوانية: ويربط هذه القوة بدرجة الإحباط، كلما كان الإنسان محبطا بشكل كبير، كلما كان أكثر ميلا للعنف، فالمراهق المغربي يجر سيلا من الإحباطات الناتجة عن عدم تفهم الأسر لحاجيات أبنائها ورغباتهم الوجدانية، والتدخل العنيف لحل المشاكل لازال سائدا في العديد من الأسر. وعندما يذهب المراهق إلى المؤسسة التعليمية يتعمق لديه الإحباط من جراء عدم تفهم المدرسين له، وممارستهم التي تذكر بسلطة الأسر، ولهذا يكون عنفه موجها للمدرسين بشكل أكبر – لأنهم غير مرتبطين معه بصلة القرابة- ، ولكن هذا لا يعني بأن الآباء بمنآى عن العنف، فالعنف ضد الآباء استفحل بدوره داخل المجتمع، وغالبا ما يرتكب تحت تأثير المخدرات، وقد يصل حد القتل. و كبح السلوك العدواني: مضمونه أنه كلما زاد توقع العقاب، كلما أدى ذلك إلى كبح السلوك العنيف، غير أن طاقات العنف تظل كامنة حتى تجد المجال للتفريغ: ولنقدم مثالا بالمؤسسة التعليمية التي لا زالت تعتمد أساليب صارمة للعقاب ، وبعض الأساتذة و الإداريين يغلبون الجانب القانوني على الجانب التربوي تحت ذريعة أن الجانب القانوني هو أكثر ردعا للتلاميذ، وأحيانا قد يتعلق الأمر بحماية أنفسهم قانونيا فقط. مثل هذه الإجراءات تزيد من تعقيد الحالة النفسية للمراهق، الذي يعيش أصلا أزمة البحث عن الذات، ينضاف إليها جهل المحيطين بحالته النفسية، ولهذا تؤدي التهديدات وأشكال العقاب إلى تفجير مدوي للنزعة العدوانية (حالات التلاميذ خلال هذه السنة على مدرسيهم)….وتحويل العدوان: يتمكن بعض المراهقين من توجيه العنف بطريقة جديدة نجدها في تكسير ممتلكات المؤسسة وتخريبها، بل وتخريب الممتلكات بصفة عامة، وخلق الشغب داخل الفصل وخارجه…وهي ردود أفعال اتجاه عدم التقدير وعدم الاعتراف. والتفريغ العدواني: يلجأ المراهق إلى العنف لتفريغ الطاقة العدوانية الموجودة بداخله، والتي تزداد قوتها بفعل الإحباطات السابقة، وأي استفزاز خارجي من طرف مدرس أو زميل أو إداري له يحفزه على تفريع الطاقة العدوانية حتى يعمل على خفض التوتر الداخلي، لهذا نلاحظ بأن التلاميذ غالبا ما يلجاؤون إلى الاعتذار عن سلوكاتهم العدوانية ، بدعوى أنهم لم يكونوا في حالة وعي وتحكم، وغالبا لا تقبل اعتذاراتهم مما يفاقم من أزماتهم النفسية خاصة بوجود أسر لا تقدم الدعم النفسي لهم، بل توبخهم وتعاقبهم.
انطلاقا من بحث أنجزناه حول العلاقة بين السلوك العدواني وتقدير الذات (سيتم عرض نتائجه بتفصيل أثناء العرض التفصيلي)، توصلنا إلى نتيجة أساسية مفادها أن تقدير الذات المرتفع يقلل من السلوكات العدوانية عند المراهقين، فالنظرة الإيجابية للذات القائمة على الاعتراف بطاقاتها وإمكانياتها في الإنتاج والإبداع والتفاعل مع المحيط، و تدبير الضغط… تجعل المراهق قادرا على التغلب على العنف وتصريفه بطريقة إيجابية. من الوسائل المؤثر ة على الشباب في العصر الحالي وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت منافسة للأسرة وللمدرسة في تنشئة الأجيال، وتمتاز هذه الوسائل بقدرة التأثير الكبير على سلوكات المراهقين، فالعالم الافتراضي هو عالم للجوء refuge للابتعاد عن ضغوطات العالم الواقعي، يتيح إمكانيات هائلة للتواصل مع الأقران، الذين قد يستغلون مشاكل المراهقين لتوريطهم ضمن جماعات متطرفة أو جماعات المنحرفين (المتعاطين للمخدرات، المجرمين….)، ناهيك عن حرمان المراهقين من المناعة الأخلاقية التي تساهم في الحد من العنف.
لكي تقوم المؤسسة التعليمية بدورها الرادع للعنف، لابد أن توفر الشروط التالية. أن يكون المحيط الدراسي مجالا آمنا يعيش خلاله المراهق بارتياح، أن يكون محيطا يسهل الاندماج والتكيف، وليس مجالا للإقصاء الرمزي والواقعي، أن يعتمد المدرسون بيداغوجيات تساعد على تقدير الذات بشكل إيجابي، مع إعطاء الأهمية للأندية التربوية. وأن تتقلص الهوة بين المدرسة والأسرة.
أستاذة بمركز التوجيه والتخطيط التربوي بالرباط