انطلق العد العكسي لنهاية الشهر الفضيل، وبدأت الأسر المغربية تطوي أيامه بكل ما يميزها من عادات وتقاليد، وتعد العدة لنسج نهاية له تمكنها من ضمان أجر الدنيا والآخرة وتوفر سعادة الأبناء والأهل والفقراء.. دق موعد عيد الفطر الذي تعتبره الأسر المغربية مناسبة لإدخال الفرحة على الأطفال والفقراء… وبدأ البحث عن موارد مالية لكسب ابتسامة الأطفال الذين اعتادوا على ارتداء ملابس جديدة وكسب نقود تمكنهم من الاستفادة من مغريات عيد الفطر من ألعاب ومثلجات، وتوفير مبلغ زكاة العيد لفك كربة فقير أو محتاج ولوازم استقبال الضيوف الذين اعتادوا تبادل الزيارات بينهم. أسر لا تبالي بمتطلبات العيد، وأخرى تنحت بأناملها الصخر من أجل إسعاد أطفالها البائسين، وأسر ثالثة لا حول لها تجول الشوارع والأحياء في انتظار الفرج.
تستعد العديد من الأسر المغربية للاحتفاء بعيد الفطر، حسب الأجواء المتعارف عليها بكل منطقة، وفق طقوس وعادات، تلاشت معالمها من جيل لآخر، وظلت راسخة لدى بعض الأسر القروية والمتمدنة الأصيلة.
فإذا كانت جل العائلات المتمدنة، أفرغت احتفالاتها بعدة مناسبات دينية من كل ما هو ثقافي تراثي، وحملت شعار التنافس على شراء لعب وملابس للأطفال، وبث الحسد والضغينة بين الأطفال، وتكريس أسلوب المساومة على “شكون أحسن من الآخر”، باعتماد ثمن اللباس واللعبة ونذرتها، وإغفال جموع الأسر الفقيرة التي يقود فيها الأبناء أمهاتهم أو آباءهم للتفرج على الألعاب والملابس المعروضة للبيع، والتي أسالت لعابهم غير ما مرة، وأدمعت لها العيون الفقيرة… ويستمر البحث عن ما قل سعره “الركلام بلعرام”، ليعودوا آخر النهار من السوق أو من محلات البيع بلعبة غير راضين عنها ولباس لدر الرماد على عيون أطفالهم، فإن العديد من الأسر القروية، تحن إلى طقوسها وعاداتها، وتعمل جاهدة على توريثها للأبناء والأحفاد، وترفع شعار: “من فات قريبه تاه”. وتعقد العزم على أن تمر كل الأعياد والمناسبات الدينية في أجواء يغمرها التراث والفلكلور والعادات التي ساهمت في جمع شتات العائلات والجيران وزادت من تماسك الأسر المغربية واستمرار التكافل.
تتسارع الأسر المغربية لاحتضان عيد الفطر، وسط زحمة المشاكل المالية والاجتماعية بسبب الاستنزاف الذي طالب الجيوب من أجل لوازم شهر رمضان والعطلة الصيفية، وشبح الدخول المدرسي الذي وإن كان بعيدا فإنه حاضر في برنامج كل أسرة.
وإذا كانت محلات الملابس العصرية، وخصوصا التقليدية منها وتلك الخاصة بالأطفال والنساء، أظهرت زينتها منذ أيام، وتفنن أصحابها في إغراء الأسر الميسورة والمتوسطة، فإن شريحة كبيرة من العائلات قد لا تدق أبوابها. ولم يعد لها ما تقدم لأطفالها خلال يوم العيد، فمنهم من يتهيأ لسلف جديد يسد به حاجة أبنائه من ملابس العيد، ويلقى بها زيارات الأهل والجيران خلال اليوم السعيد، ومنهم من عقد العزم على تطبيق مقولة (الفرح في القلب والله الرقيب). وغير بعيد عن محلات الملابس بالقيساريات والمتاجر الفخمة، تنشط الجوطيات وبالأسواق الأسبوعية التي مازالت تحتضنها بعض المدن رغم طابعها القروي، أينما صوبت وجهتك، تشدك محلات الباعة المتجولين و”الفراشة”، الذين يتضاعف عددهم سنويا، وتتنوع سلعهم… تنتظر قدوم المستهلكين مرفوقين بأطفالهم.
قال الحاج اليعقوبي شيخ في الثمانين من عمره إن عيد الفطر شأنه شأن الأعياد الدينية الأخرى، مناسبة تحبها الأسر المؤمنة بقدرة الخالق على منحها من رزقه من حيث لا تدري، واعتبر أن طقوس الأعياد الدينية تجسد كل مظاهر التكافل والتعايش وتزيل الغبن والحقد بين الناس.
وكان أحمد موظف بقطاع البريد بمدينة المحمدية، مرفوقا بأطفاله الثلاثة في طريقه إلى جوطية العاليا بالمحمدية، وقد عقد العزم على شراء ملابس وأحذية لهم خاصة بالعيد. يعاين الألبسة المعروضة بالمحلات ويده اليمنى في جيبه تعيد حساب ما وفر من نقود لهذا الغرض. قال أحمد ردا عن سؤال حول متطلبات العيد: “لقد اعتدنا على شراء ألبسة جديدة لأبنائنا خلال عيد الفطر، وكنا نوفر ثمنها من الرواتب الشهرية السابقة، لكن عيد هذه السنة جاء في فترة استنزفنا فيها كل مدخراتنا بسبب مصاريف الشهر الفضيل والعطلة الصيفية، وأيضا لأنه جاء متزامنا مع الدخول المدرسي، ولم يكن في وسعنا سوى اقتراض بعض الأموال لإدخال الفرحة على أبنائنا“.
وعلى مقربة من جوطية العالية تسير العشرات من الأمهات رفقة أطفالهن بين صفوف الباعة المتجولين الذين أحاطوا بالمسجد… معظمهن يبحث عن ملابس (ريكلام) بأثمنة منخفضة يلبسونها أطفالهم خلال يوم العيد… فيما تعرج معظم الأسر المغربية على محلات وخيام باعة الملابس القديمة (حويجات البال)… لم تعد الأمهات والآباء يفكرون في جودة ما سيقتنون من ألبسة ومدى ملاءمتها لأطفالهم… منهم من يعرف مسبقا أن تلك الملابس لن تقاوم عملية تنظيف واحدة، وأنها ستعرض للإتلاف بعد شهر أو شهرين، لكن حلمهم برؤية فرحة العيد مرسومة على وجوه أطفالهم، تجعلهم يسارعون إلى اقتنائها… بعضهم يبحثون عن باعة يعرفونهم، لاقتناء حاجياتهم عن طريق السلف دون اعتبار لما لديهم من سلع.
فكل ما يشغل بال الأسر هو الإعداد ليوم العيد الذي يقتني له البعض ملابس تقليدية خاصة، ويوفر له طقوسا ورثها عن آبائه وأجداده. يجتمع يومه كل الأهل والجيران حول أطباق متنوعة من رغايف وحلويات وشاي وبغرير ورزة القاضي، يتبادلون التهاني والأماني، ويجددون الترابط العائلي ويقلبون صفحات العداء والاشتباكات اليومية. ويستعد العربي المتزوج حديثا لاستقبال أصهاره للمرة الأولى، وزوجته تلح على أن يكون الصالون في أبهى زينة والأطباق شهية ومنوعة والاستقبال حارا لتؤكد لهم حسن اختيارها لشريك حياتها. التقته “الصباح” يتفاوض من أجل اقتناء تجهيزات جديدة، فهمس لنا بضيق لم يكن يقدر الإفصاح عنه أمام زوجته: “إنه ثالث قرض أستلفه لإرضائها منذ زواجنا بحوالي خمسة أشهر، لا أظنني سأستمر معها طويلا بهذا الأسلوب“.
ومن جهتها ابتسمت الحاجة فاطمة وهي تستقبل سؤالا عن عادات وطقوس احتفال قبيلة الزيايدة بأيام عيد الفطر، وانطلقت الراوية المبدعة، ولسانها يوحي باحترافية في مجال الحكي (عن حواديث زمان): كنت في صغري رفقة فتيات الدوار، نلتقي صباح يوم عيد الفطر بعد تناول الإفطار الجماعي مزينات بألبستنا التقليدية (قفاطن والتحتية والشرابل والمضام والحناء)، نقضي النهار في اللعب والحكي عن كيفية اقتنائنا للألبسة وطريقة استعمالنا للحناء، فيما يجتمع آباؤنا وأمهاتنا داخل أحد المنازل يناقشون أمور الدين والدنيا، يتناولون وجبتي الفطور والغذاء جماعة ويفترقون عند المساء...
رمضان كريم لكل من أثمرت حسناته وأينعت أفضاله على الأرض والبشر.. وعيد على الطريق لمن يسعى إلى جني الكثير من الحسنات… فكوا كرب الأسر المعوزة بإسعاد أطفالها…وازرعوا بيننا الحب والتكافل والتراحم فما تزرعونه اليوم يحصدونه أطفالك وأحفادكم… وسيكون غذاءكم الأساسي يوم الرحيل الأخير بدون متاع ولا زاد ولا أولاد… دمتم في رعاية المولى.