إن الأحداث المتصلة بالحرب في سوريا، باسم الثورة على نظام الأسد، والتجاذبات السياسية التي ترجمتها المواقف العربية المنحازة إلى صف السياسية الغربية بوعي ناتج عن إملاء أو باندفاع لكسب رضا واشنطن، تحيلنا بعد وقفة هدوء إلى التساؤل الرزين حول الخلفيات الخفية لما أطلق عليه “بالربيع العربي”، أو ما ينعت بتصنيع “الثورات” في البلدان العربية بإرادة سياسية خارجية مجاوزة للإرادة الحقيقية للشعوب العربية في ابتكار ثوراتها الحقيقية.
إن الجواب عن هذا التساؤل، تسبقه مقدمة تفسيرية للأحداث في سوريا باعتبارها عينة صالحة للتشريح والتحليل، تفيد في فهم الماجرى السياسي والاستراتيجي بالمنطقة.
تعتبر الحرب في سوريا أهم حرب مدنية عرفتها بداية هذا القرن، والتي خلفت ما يزيد عن 160 ألف قتيلا، نتج عنها تدمير بليغ للبنيات الاجتماعية والاقتصادية والحضارية، وتسببت في انتكاسة إنسانية مريعة عبرت عن شباعة نوايا الدول العظمى المتصارعة، وعن خلفية أهدافها في التموقع الجيوسياسي بالمنطقة.
إن المنظور الجديد لهذا لصراع، يتحدد من خلال تدافع القوتين إلى بلورة جديدة لهوية سياسية وعسكرية مختلفة لكل منهما. لذلك، لم يعد الصراع يقوم على الانفصال ما بين قوى قارية ممثلة في سوريا وقوى بحرية تمثلها أمريكا والناتو، وإنما أصبح صراعا موقعيا مركبا يجمع ما بين القاري والبحري في آن واحد. ويعد كسب رهان التموقع المركب للقوى الواحدة بمثابة تفوق استراتيجي مميز عن نظيرتها في الصراع، وذلك هو هدف أمريكا على المدى القريب لربح مرحلة الانتقال الإجرائي إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق الخطة السياسية والتقنية التي تشتغل عليها.
لقد تنبهت روسيا إلى أهمية التموقع المركب في العالم، وذلك بعد نجاحها في مواجهة مخطط أمريكا والغرب (1999-2009) القاضي بتقسيم الشيشان والدعوة إلى انفصال شمال القوقاز بدعم كتائب من المتأسلمين تحت شعار “الجهاد والتحرير”، ثم المبادرة إلى تلويحها بالعودة إلى سباق التسلح على إثر نشر أمريكا الدرع الصاروخي بالقرب من الحدود الروسية 2007، بحجة استعدادها لاعتراض إطلاق كوريا الشمالية وإيران لصواريخها النووية.
إن التدافع نحو تجديد الهوية السياسية والعسكرية ما بين القوتين العظمتين في المنطقة اتجه على نحو سريع إلى مصر وسوريا واليمن وإيران. لذلك شددت روسيا على تواجد بحريتها بشكل دائم في البحر الابيض المتوسط، خاصة في ميناء طرطوس السوري، ثم على حضورها المكثف في ميدان الصراعات الإقليمية سعيا إلى البحث عن أكثر من موقع قدم لتأكيد دورها في ضبط التوازنات في العلاقات الدولية.
تبعا لهذا المنطق، لم يكن بمقدور روسيا التخلي عن نظام الأسد وإلا ستكون قد انتحرت جوسياسيا ومكنت أمريكا من إتمام خطتها بدءا من مهاجمة إيران ثم شمال القوقاز، ومحاربة روسيا نفسها وصولا إلى إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط.
لقد استطاعت روسيا أن تعرقل أي قرار دولي موجه ضد سوريا، مؤثرة في ذلك على الصين، مما يبرهن مرة أخرى على صعودها الجديد إلى منصة إعادة الاعتبار لتفوقها العسكري والاستراتيجي.
أما على المستوى الداخلي فقد تمكنت من تدبير الحرب بالاشتغال على استثمار الانقسام الطارئ داخل مكونات الشعب السوري بخلفيات عقدية وعرقية، وشجعت نظام الأسد على تصعيد إيقاع القمع الذي لم يميز ما بين المدنيين وحاملي السلاح من المعارضة وهيأت أسباب تدخل إيران بإيفادها إلى عين المكان أهم خبراتها واستراتيجيها لدعم النظام السوري وإمداده ماديا بكل الوسائل المتاحة، فضلا عن تدخل حزب الله بدعمه الأسد بستة آلاف مقاتل شيعي وتزويده بالخبرة الاستراتيجية الحربية المرتبطة بحرب الجماعات المتفرقة.
إن هذه العوامل قوت النظام السوري وأربكت كل التحليلات والتكهنات القاضية بسقوطه على الطريقة التي وقع بها حسني مبارك وزين العابدين وامعمر القدافي الذي جعل المعادلة السياسية المعدة سلفا من طرف أمريكا غير محسوبة بما يكفي من الدقة والضبط. إن أداءها في تدبير الحرب في سوريا ظل تقليديا ومكشوفا وكان السبب في إخفاقها المرحلي أمام الخطة الروسية.
إنه التدبير نفسه الذي اعتمدته في الشيشان وشمال القوقاز، وكأن التاريخ يعيد نفسه هنا، إن الكتائب الجهادية إلى جانب السلفية التكفيرية، وقطر الداعمة لجماعة الإخوان المسلمين، تدخل في نفس السيناريو الذي كانت تحسن أمريكا حبكه وتوظيفه.
يعتبر هذا التكتل الأخير، هو رأس الحرية فيما يعرف بالانتفاضة الوطنية في سوريا، انطلاقا من الاعتبار الظاهري بأن مناصري الثورة يقومون على مذهبين (سني ووهابي) وهذا يقتضي منهم محاربة المد الشيعي الإيراني.
نلحظ، إذن، أن الصراع في سوريا ليس صراعا سوريا، وإنما هو صراع تتحكم فيه أجندات سياسية بلبوسات مذهبية، تنتهي إلى ما أسميناه إلى التطاحن حول التموقع المركب في إطاره الجيوسياسي.
وحيث إن أمريكا تغامر بورقة إشعال النعرات العرقية والمذهبية في المنطقة، باستعمال دول مجاورة، فإنها بذلك تغامر بأدوات تقليدية تكون لها آثار عكسية وجد كارثية على المنطقة والعالم.
إن الفرد اليوم، يستطيع اكتساب كثير من المناعات وخلق المسافات مع المخططات التي تدار في أعلى مراكز القرار في العالم، وذلك عن طريق المكتسب المعلوماتي الحامل لجرعات منبهة عبر الشبكات العنكبوتية.
إن مغامرة أمريكا في المنطقة تذهب إلى خلق فصيل جديد من التطرف بميكانيزمات متطورة ومتجددة، فد لا تنقلب عليها فقط، على المدى المتوسط، بل تخلق إطارات دولية لإرهاب جديد ولهويات مختلفة يصعب استئصالها.