لم أكن أعلم أن للخيل من يسيسهم أيضا و أن السياسة لا تقتصر عل بني البشر و لكن تتعداها إلى العالم الحيواني حتى سمعت أيام الصبى أن هناك مهنة تسمى تسييس الخيول أي ترويضها .
و لم يقتصر المصطلح على أيام الطفولة بل رافقنا في كل مراحل الحياة , لا بل سبقنا لهذه الحياة , فاقترن المخاض أيضا بالسياسة بحيث يطلب الأهل من القابلة أو الممرضة أن تسايس مع الحامل حتى يفك الله وحايلها ,أما اليوم فلا مجال للتساهل أو التسييس فما تلبث الحامل بالوصول إلى المستشفى حتى ترفع إلى قاعة العمليات ,فمعظم الولادات أصبحت قيصرية كأن رؤوس الأجنة عندنا يتزايد حجمها مع كل ولادة جديدة فأصبحنا قريبين من مقولة معدلة "رؤوس البغال و عقول العصافير"؟ رغما أن لا مؤشرات علمية تشير الى هذا التغير ,أما صراخ المقبلة على الولادة و الذي يختلف باختلاف المناطق و اللهجات و بشدة تيار الأوجاع , فتقابله ممرضاتنا إن لم تسيس معهن ماديا بوابل من المؤاخذات تخرج في غالب الأحيان عن إطار اللباقة و الأدب و عن روح المهنة فتكره الحامل اليوم التي فكرت فيه بالحمل .
أما أيام الطفولة فكانت الأم تطلب من الأب و الإخوة أن يسايسوا مع الإبن الصعب المراس ,فعادة أن تحوي كل عائلة مغربية ابنا من هذا النوع يغرد خارج السرب ,تعتبره الأسرة زكاة أو رافعا للعين على باقي أفراد الأسرة .
في المدرسة لم يكن للغة السياسة بهذا المفهوم مكان بين أسرة التعليم, أسرة تعلمنا منها أن ممارسة سياسة الانضباط و سياسة النضال مقترن بالمسؤولية تجاه الناشئة و تجاه الوطن قبل أن يكون نضالا من أجل الذات,هذا البناء في الأساس هو الذي دفع بألاف اليافعين من تلاميذ الإعدادي و الثانوي للالتحاق بالأحزاب الوطنية حيث كان التأطير بشكل يومي في مقرات لم تشهد أبدا مثل جمود اليوم بل كانت خلية للنحل على مدار الساعة تنمي الفكر و تصقل الموهبة و ترفع درجة المروءة و تخلق عند الجميع بلية إسمها "بلية السياسة" بعيدا عن بلية المخدرات و الأغاني المنحطة , فاقترنت "بلية السياسة" بالتحصيل حيث كانت مقرات الأحزاب أماكن للدراسة و الاستعداد للاستحقاقات الدراسية ربما بحدة أكثر من الاستعداد للاستحقاقات الانتخابية التي كانت معروفة نتائجها سلفا.
تذهب أيام و تأتي أخرى و يأخذ التسييس منحى جديد يتسم بالخطورة بمكان على صيرورة الحياة و على الإنتاجية و الانضباط بعدما أصبح قاعدة و ليس استثناء ,أصبحت المصالح تسيس مع موظفيها حتى أغلقت المكاتب في عز الظهر رغما على التوقيت المستمر فأصبح قضاء المصالح رهين بأجندة الموظف , و أصبح الدوام بالمدارس رهبن بحالة الطقس و بالالتزام بمقررات النقابات التي أصبح عددها بعدد الأحزاب السياسية.
ولم يسلم القطاع الخاص من لعنة التسييس فغابت الفعالية و النجاعة التي يستوجبها القطاع , بل ساهمت ذات السياسة في إغلاق معامل و تسريح عمال وضرب الاقتصاد المحلي لمجموعة من المدن بعدما تعذر التسييس بين المشغل و النقابات أو بين النقابات نفسها , أما التجار الصغار فاسترجاع الكريدي يتطلب تسييسا و صبرا من نوع خاص.
و إذا انتقلنا إلى مستويات عليا تتوطد العلاقة فيها بين السياسي و التسييس بشكل دائم , فيسيس الحزب مع نقابته كل ما صار في موقع القرار , و تسيس الحكومة مع المعارضة فيما بات يسمى بالمعارضة النقدية أو دبلوماسية التعامل بالمثل وأصبح لسان كل الحكومة يقول " سيسو معانا الخوت كيف سيسنا معاكم زمان حتى نساليو سربيسنا بخير" وتبقى أثمنة التسييس في هذه الحالات باهضة الثمن و ذات حساسية قصوى نظرا لارتباطها بالمصالح العليا , وحتى لا أتهم بأنني أمارس السياسة لصالح حزب بعينه رغم أن الإنسان سياسي بطبعه فلن أتكلم عن علاقة المسايسة التي تنهجها المجالس البلدية و الإقليمية مع مجتمعها المدني بعد أن أقحم الترافع عن الحي أو المدينة في خان ممارسة الدعاية السياسية.
وتبقى عمليات التسييس بين المسئول و المستفيد من الخدمات التسييسية غير مجانية فإما أن تكون مدفوعة الأجر نقدا"إسبيس" و تلكم هي القاعدة أو مؤجلة الدفع "أجرها عند الله" و هذا الاستثناء.و لن تفوتني الفرصة لأشد على الأيادي النظيفة التي أثرت القناعة على الثراء عبر المسايسة المدفوعة الأجر قصرا.
وبما أن لكل قاعدة استثناء فالحالات الوحيدة التي لا تطبق فيه سياسة سيس قليلة و تتعلق إما بظهور المعطلين و رؤوسهم كلما اقتربوا من البرلمان فلا تساهل مع فوضى المثقف , أو بتحصيل ضرائب المواطنين’ ليس كلهم طبعا ’فلا أحد استثني من الزيادة في ضرائب السيارات أو ضرائب النظافة و الدخل و لو تطلب الأمر الاقتطاع من المصدر.
و الخلاصة في القول أن السياسة بهذا المفهوم هي ممارسة يومية يستعملها كل فرد من المجتمع كل ما دفعته الظروف الذاتية أو الموضوعية لذلك بغية قضاء مأربه , و هي تدخل في جميع الحالات في إطار المرض الاجتماعي رغما عن كل من يريد أن يدجنها و يجعلها ظاهرة صحية تساهم في السلم و الاستقرار الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي .
ولو انتقلنا بكم إلى الضفة الأخرى من المتوسط هذه المرة ليس للإقتداء السلبي بجيراننا الأوروبيين كما نفعل عادة , و لكن لنستشف أسرار النجاح لديهم , للمسنا بما لا يدعو إلى الشك أن سياسة سيس لا مكان لها في قاموس الممارسة اليومية ,فالمواطن بغض النظر عن مركزه و عن جيبه و عن انتمائه الحزبي أو النقابي أو وظيفته يأخذ حقه كاملا مكتملا , و يقوم بواجبه في احترام تام لالتزامات وظيفته.القانون يطبق على الجميع بدون استثناء ’ و الساهر على تطبيقه هو المواطن قبل أن يكون المسئول.
فسياسة سيس التي أضحت عنصر من عناصر دمنا هي من أفرزت لنا الفوضى في كل شيء باعتبارها ظاهرة تجاوزت حدها المنطقي فتجلت سلبياتها ظاهرة للعيان ,فتناسلت البراريك مثلما تناسلت البنايات الشاهقة فوق رمال الشواطئ, وتنامت أمراض الحقرة بقدر ما تنامت ثروات أصحاب الحاجة مقضية حتى أصبحوا يهددون الاقتصاد الوطني بسحب سيولتهم,و أصبحت المشاريع المنجزة تتكرر و تدخل في خانة الإصلاح مباشرة بعد أن يتسلم المقاول ماله, و تناثرت بشكل مهول ظاهرة الفراشة في الطرقات الرئيسية و الفرعية و أمام المساجد و أمام التجار "الدافعين لضرائبهم" و أترك لكم التتمة… .
فجميع الأمراض الاجتماعية يمكن ربطها بذات السياسة بأشكال متفاوتة, و يبقى تجاوز هذه السياسة في نظري بعيد المنال حتى إشعار أخر.