قبل أن أشرع في توضيح دلالات العنوان اعلاه، أؤكد أنني أكاد أسمع صيحات المحتجين وهم يعيبون عليّ “التفريق المبيَّت”، كما قد يسمّونه، بين فصائل المقاومة الفلسطينية، بجعل بعضها ملائكياً وبعضها الآخر شيطانياً… وقد يذهب بعضهم إلى اتهامي بخدمة أجندة معيّنة، أو مريبة، وستطول
لائحة الاتهامات بلا ريب، ولذلك أقول لكل هؤلاء حتى قبل أن أبدأ، هوّنوا عليكم فقد صرنا فلسطسنيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، بل صرنا نحن أصحاب القضية الحقيقيين، بعد أن حولها زعماؤهم إلى أصل تجاري معروض للبيع والشراء داخل أجنحة الفنادق المصنَّفة، والمتجاوِز منها معايير التصنيف من قبيل السبعة نجوم، يصدرون من فوق أرائكها الوثيرة أوامرهم بالزحف المقدس، فيتم بذلك القضاء المبرم على أنفس ليس لها من ذنب سوى أنها كانت موجودة في المكان غير المناسب في الوقت غير المناسب، من المدنيين خصوصاً، ومن النساء والأطفال والشيوخ العجزة، ومن ذوي الحاجات الخاصة غير القادرين على المناورة أو الهرب… أما العسكريين فأعدادهم دائماً جد يسيرة لأنهم ليسوا المستهدَفين الرئيسيين، وإنما جرت العادة بأن تكتمل بهم الصورة من باب سد الذرائع!!!
لنتمعن ما يقع جيدا، فإن أغلب أخطائنا إنما يأتي من تسطيحنا للأحداث والوقائع، ومن رؤيتنا لها ببُعدين اثنين، بدون تمعّن، بينما هي في حقيقة أمرها ذات أبعاد في غاية التعدد والتنوع:
يجلس الزعيم اسماعيل هنية في موقعه الفندقي الأثير، كما يفعل زعيم حزب الله وغيره، يحمل هواتف نقالة بالجملة، يستعملها تباعاً للاتصال بأجنحة متعددة ومختلفة، رابضة في مواقعها في انتظار إشارات الانطلاق… بالمناسبة، فأبناء الزعيم هنية وامثاله من قادة الحركات الفلسطينية، ليسوا بين أفراد تلك الأجنحة، بل هم في إقاماتهم أو مدارسهم أو معاهدهم في بريطانيا أو في أي بلد غربي آخر، بعيدين كل البعد عن “صداع الراس”!!!
في لحظة من اللحظات الفارقة، يعود الزعيم هنية، تحديداً، إلى هواتفه، ويشرع في إصدار أوامره بالبدء في الهجوم، وبمجرد انطلاق أولى الشرارات يستقل طائرة تحمله على وجه السرعة إلى تركيا، حيث يوجد الآن بالفعل، ليبقى هو الآخر بعيدا عن روائح الدم والعرق والتراب والبارود!!!
تنطلق الهجمات متتالية أو متزامنة، فلا تفرّق بين الصغير والكبير، والمدني وغيره، ولا بين امرأة وطفل، أو عجوز مسنة أو معاق… وبين كل ضربة وأخرى يظهر بالصدفة في مرمى الحجر عسكريا أو عنصر أمن، أو دركي، فتصيبه طلقة لم تكن لتخطئه لأنه هو الذي أصابها في واقع الأمر بظهوره فجأة في مسارها العشوائي… ولذلك تقول الإحصائيات من الطرفين المتحاربين إن تسعين في المائة من القتلى والجرحى هم من المدنيين حتماً، من الجانبين معاً… ومن بين المدنيين والعسكريين لا يوجد بقدرة قادر أي ابن أو خال أوعم أو أي قريب آخر من أقارب الزعيم اسماعيل هنية، رئيس منظمة حماس، التي ترعاها جهات معلومة، ولكنها أيضا تدعمها إيران، تماما كما تدعم حزب الله، والمنظمتان معا صنعة إخونجية وإيرانية تمثل أولاهما قوات من السنة، والثانية فصائل من الشيعة، هذه تضرب انطلاقا من شريط غزة، والثانية من مخابئ في جنوب لبنان…
ويكثر اللغط حول إحصائيات القتلى والجرحى من الجانبين، ولا يكتشف المتتبع أي وجود من بين هذه الأحطاب البشرية لزعيم واحد من زعماء الخمسة نجوم، الذين ألقوا أوامرهم عبر الهواتف الخلوية ثم غيروا موقعهم البعيدة كل البعد عن مسارح الأحداث والمعارك… وهنا مربط الفرس، الذي قد أتلقى بسببه الكثير من التهم، الجاهزة ككل مرة!!
تصوروا معي الآن أن الزعيم فلان تلقى حقائب مالية ثقيلة، جد ثقيلة، ليدبر جيدا عمليات الهجوم من مختلف جوانبها، وسيناريوهاتها، بالتشارك بطبيعة الحال مع شركاء في الزعامة، وأن الهدف من ذلك هو منح دولة إسرائيل مبررا مُقْنِعاً ومقبولا أمام القوى العالمية والمجتمع الدولي لتصفية حساباتها مع حماس وحزب الله ومن يدور في فلكيهما، وبالمناسبة، لتصيب الفلسطينيين عموما في مقتل، أو على الأقل، لتشل حركاتهم المناهضة لمشروعاتها التوسعية والتقعيدية عقودا أخرى تزداد فيها “إسرائيل الدولة” قوة ورسوخا، ويصبح التطبيع العربي الإسرائيلي خلالها قد بلغ أشُدَّهُ، وأوْجَهُ، وحقق أغلب أهدافه، وعلى رأس هذه الأهداف، وضع حد فاصل وقاطع مع شيء كان اسمه “الصراع العربي الإسرائيلي من أجل قضية فلسطين”… وعندئذ، سيختفي كليةً مشروع الدولتين، ولن يجد عرب فلسطين أمامهم من مخرج سوى قبول الانتماء “لإسرائيل الدولة”، التي لن تلبث في السياق ذاته أن تتحول إلى “دولة أمة”، وهو الحلم الذي ما لبث يخامر قادة الصهيونية العالمية من وعد بلفور سنة 1917… وربما قد كتب لهذا الحلم أن يتحقق، مروراً من قنوات كثيرة منها المرحوم أبو عمار، وجورج حبش، وحنان عشراوي وصائب عريقات… ومرورا برسائل الاعتراف الفلسطينية الإسرائيلية الموقعة والمتبادلة سنة 1993 بين ياسر عرفات وإسحاق رابين…
ثم هاهو الأمر يصل الآن إلى ما يمكن تسميته “ضربة المعلم”.. التي ستُنهي بشكل أو بآخر هذا النزاع التاريخي، الذي ليس فيه سوى مغبون واحد، هو الشعب الفلسطيني البسيط، المذبوح بأيدي زعمائه المتاجرين بكل قطرة دم من دمائه منذ البداية!!!
سيسأل سائل: فما هو موقف المقاتلين الأبطال الذي أثّثوا كل هذه المشاهد الرهيبة وشكّلوا نيرانَها وحطبَها بامتياز؟
وستكون الإجابة في مثل بساطة السؤال وسطحيته: إنهم ليسوا إلا وقوداً آيلا إلى النفاد والنضوب، ولن يذكرهم التاريخ كما جرت به العادة، وإنما سيذكر فقط الزعماء، الذين مازالوا في مخابئهم الباذخة يحتسون كؤوس الشامبانيا ويرقصون على ضربات صواريخ القسّام وروكيتات حماس وهاونات حزب الله… ثم يقبضون الثمن بالدولار واليورو كما في كل مرة…
وكل عام والحرقةُ والغبنُ الفلسطينيان والعربيان بألف خير!!!
بقي أمر آخر وأخير في غاية الأهمية، وهو أنني وأنا أفرق بين حماس وحزب الله وزعمائهما المخمليون من جهة، وبين شعب فلسطين المكلوم والمصاب بكل الأوجاع من جهة ثانية، لم أنس لحظة أن حماس وحزب الله، بالذات، يقفان على حدودنا مع جارة السوء في شرق البلاد لدعم مرتزقة البوليساريو، ليخططوا لهؤلاء ويعلموهم كيف يحفرون الخنادق ليخترقوا جدارنا الأمني ويُثخنوا فينا وفي أبنائنا وجنودنا تقتيلا، دون أن يضعوا في اعتبارهم أنهم بذلك يخونون بلدا ما فتئ ملكا وحكومة وشعبا يقدم لهم كل العون والسند… بلدٌ بلغ الإيثار به إلى درجة وضع قضيتهم المزمنة، الخاسرة، وقضية وحدته الترابية، الرابحة، على قدم المساواة!!!
من يقول غير هذا فليتقدم مشكورا!!!
__________
محمد عزيز الوكيلي*
* إطار تربوي.