من أجمل ما قرأتُ، مقولة للجنرال “فو نوين جياب” أحد قادة وأبطال الثورة الفييتنامية، لمّا زار أحد بلدان الشرق العربي، والتقى فيه بقيادات الثورة الفلسطينية، فوجدهم يركبون سيارات المرسديس الفارهة، ويحتسون قهوتهم الصباحية في فنادق الخمس نجوم، حيث يقيم معظمهم، ويُدخّنون سيجار الهافانا الكوبي الرفيع، الذي يعادل ثمن اللّفّة الواحدة منه راتب موظف عربي متوسط الرتبة والدرجة، ويرتدون آخر صيحات الموضة الإيطالية الضاربة شهرتها في الآفاق، ويضعون العطور الفرنسية الباهظة!!!
كنت أقول، علّق الجنرال جياب وهو يرى ذلك البذخ الفاضح بكلمات يسيرة ولكنها في غاية البلاغة والحكمة… قال: “لن تنتصر ثورتكم”…
فلما سأله محاوروه ما السبب؟ قال باقتضاب شديد زاخر بالمعاني : “لأن الثورة والثروة لا تلتقيان”…
هكذا تكون “ضربة المعلم” وإلا فلا!!!
عندما نشاهد في هذا الزمن الثوري الرديء، كيف يعيش قيادات فتح وحماس وجبهة التحرير وباقي الفصائل الفلسطينية، وأين يسكنون، وكيف يتنقّلون ويسافرون في كل الاتجاهات، وحتى بلا أدنى اتجاه معلوم أو معقول، وكيف يلبسون، وأين يبعثون أبناءهم للدراسة والتحصيل بعيدا كل البعد عن “رائحة العرب”…
ونرى أين يعالجون مرضاهم، ويقضون لياليهم الحمراء، وكيف تُحجَز لهم الفنادق المصنفة، وأجنحتها الأكثر رفاهاً وبذخاً، ثم ننظر إلى سحناتهم الصبوحة، المتنوّرة، وحركاتهم الأنيقة، وأيديهم الناعمة، وعيونهم النائمة، ونرى أسرهم الغارقة في الريش والمخمل…
عندما نرى كل ذلك، ونشاهده بالعِيان في كل وقت وحين، ثم نرى بِخِلافِه ظروفَ عيشِ بسطاء الشعب الفلسطيني، نساءً وأطفالاً ومسنّين ومعطوبين ومعاقين… نفهم للتّوّ لماذا لا تبارح القضية الفلسطينية مكانها منذ العدوان الثلاثي، وقبله بكثير، ولماذا تتبدل وجوه قادة هذه الثورة، “المجيدة قولاً لا فعلاً”، جيلاً بعد جيل، دون أدنى تبدّل في أسلوب العيش الباذخ والمتخطي أحيانا كل معايير المعقول والمقبول، ونعلم حق العلم لماذا يعامل الغرب برمته هذه القضية من منطلق رؤيته الموضوعية لأحوال هذه القيادات، التي تولي من الأهمية والأولوية لشُنَطِها ومحفظاتها، الملئى بالدولار واليورو، ما لا توليه لشعب فلسطين بالكامل!!!
هنا بالذات، وأمام هذا الواقع المُلتبس، والنشاز تحديداً، نفهم موقف قيادات حماس الأخير، وأقصد هنا الموقف بالفعل، وليس الموقف المعبر عنه بأقوال وتصريحات نعرف أنها موجهة للاستهلاك، وندرك أن شيئاً ما يستتر وراء بهرجة الهجوم الأخير، الذي سمّته القيادات ذاتُها “تاريخيا مسجلا بمداد من ذهب”، ونكاد نجزم أن ما خَفِيَ كان أعظم، ونحن نشاهد تلك القيادات وهي تتبختر بنفس اللّوك، ونفس المظاهر الباذخة، وفي نفس البلاطوهات المعدّة تجهيزاً وتأثيثاً بكل عناية، حتى أننا نكاد نتبيَّنُ روائحَ عطورهم الذكية عن بُعد، وهم يتكلمون عن شيء غريب كل الغرابة عنهم، لأنهم لا يعيشونه مطلقاً… شيء يعيشه الفلسطينيون الآخرون، البسطاء، وحدهم في غزة والقطاع، لا تصل إلى هذه القيادات روائحه التي يمتزج فيها الدم بالعرق، والبُراز، والرَّماد، والغبار… وبالوحل الناجم عن خليطٍ من أبوال الجرحى والقتلى وقيئهم، ومن لحوم أطفالهم الطرية، النَّدِيَّة، المفرومة كالكباب الشامي الشهير والمتناثرة في كل اتجاه!!!
والآن فقط، نفهم لماذا لا تنتصر الثورة الفلسطينية، ولماذا لن يُكتب لها أن تنتصر، بعيدا عن شعاراتها التي صارت تخدش آذاننا وتحتقر ذكاءنا، مادامت هذه الطفيليات والطحالب البشرية الحاملة لألقاب القيادة والريادة تمارس نفس شطحاتها البغيضة أمام أعيننا، وترتكب نفس حماقاتها الفاضحة وراء ظهورنا، وما دامت تصطنع المعارك وتفبرك الانتصارات الكاذبة… لأن الحقيقة فرت بجلدها من تحت أنوفهم المزكومة، التي تكاد لا تشمّ إلا عطورهم، ودخان غليوناتهم الكوبية، الممتزحة بروائح الكباب التركي في ضيافة رئيس كرغولي يتاجر هو الآخر بكل شيء، ويصنع لنفسه هو الآخر هالة من الثورية والنضالية لا تخفى حربائيتها على أحد… عجبي!!!
____________
محمد عزيز الوكيلي*
* إطلر تربوي.