احتضنت مدينة فاس نهاية الأسبوع المنصرم ندوة وطنية حول موضوع (السلوك المدني بالمؤسسات التعليمية)، نظمتها المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي بفاس بتنسيق مع الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة فاس مكناس وبتعاون مع مختبر العلوم المعرفية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس، تحت شعار (ترسيخ السلوك المدني من أجل مؤسسة تعليمية بدون عنف)، واستهدفت الندوة منسقي ومنسقات خلايا الإنصات والوساطة بالمؤسسات التعليمية، والشركاء في مجال مناهضة العنف بالوسط المدرسي. وافتتحت الندوة بكلمة للمدير الإقليمي، الذي ركز على أهمية الشراكة بين المديرية الإقليمية والجامعة للبحث في القضايا التي تهم منظومة التربية والتكوين، والمساهمة في التأطير العلمي للهيئة التعليمية، وأكد على الدور الرائد لخلايا الإنصات والوساطة في التخفيف من مظاهر العنف بالوسط المدرسي، وترأس الجلسة العلمية الأستاذ رشيد شاكري مفتش تربوي وعضو مختبر العلوم المعرفية، وعرفت مشاركة أربعة متدخلين أساتذة وباحثين.
المدرسة المغربية والسلوك المدني: مفارقات الواقع وتطلعات المستقبل
انطلق الدكتور رشيد الجرموني الأستاذ والباحث في سوسيولويا التربية من محاولته تحديد مفهوم القيم. حيث عمل على نمذجة بعض المجالات التي حصلت فيها تحولات كبيرة على مستوى القيم، وأشار في هذا الصدد، للانتقال من التضامن إلى قيمة الذات الفردية، و إلى قيم قديمة، دون أن تعوض بقيم جديدة، وظهور قيم جديدة أخرى لم تكن معروفة في السابق، وأعطى أمثلة عديدة من الواقع منها المفارقة بين قيمتي الطاعة والحرية. كما استعرض العديد من المفارقات التي يشهدها المجتمع المغربي وتنعكس على النظام التعليم، وخاصة فما يخص بالمرجعيات بين المرجعية الكونية والمرجعية المحلية. وذكر في الختام بأهداف التعليم كما توصل إليها بعض الباحثين، وهي التعلم لنعرف، والتعلم لنعمل، والتعلم لنكون، والتعلم لنعيش مع الآخرين.
تحسين شروط بيئة التعلم لترسيخ السلوك المتوازن لدى المتعلمة والمتعلم
من جهته انطلق الدكتور بنعيسى زغبوش أستاذ علم النفس ومدير مختبر العلوم المعرفية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس من عدة أسئلة بهدف الربط بين فشل التعلم وإمكانات تبلور السلوكات العنيفة. حيث تساءل (هل المتعلم هو السبب في العنف أم أن المتعلم نفسه نتيجة لأنواع أخرى من العنف تمارس عليه؟ وهل تهذيب سياقات التعلم سيؤدي إلى توافق أفضل لسلوكات المتعلم مع متطلبات الواقع وانتظارات المجتمع؟ وهل نعالج الأعراض (المنطق السلوكي) أم نعالج سيرورات تشكل الأعراض (المنطق المعرفي)؟.. وأوضح أن بعض عناصر الجواب تتطلب عودة إلى مرحلة تاريخية لتقييم تجربة وسمت أجيالا من المتعلمين. مشيرا إلى تجربة المرحوم أحمد بوكماخ. والتي طرح بشأنها سؤال: لماذا عَلقت عدة نصوص و صور بذاكرات أطفال هذه المرحلة واستمرت في الزمن حتى شاخوا؟. وأضاف أن بعض عناصر الجواب تكون كامنة في: جاذبية النصوص رغم بساطة الصور وقلة الألوان (معظم الصور مرسومة باليد)، وقلة الكتب المدرسية (كتاب بالعربية وآخر بالفرنسية)، وقصر مدة الزمن المدرسي (ساعتان صباحا وساعتان مساء: إحداهما للعربية والأخرى للفرنسية).
وأكد أن استحضار هذه التجربة، لا يعني خروج عن ضوابط السياق ومنطق التاريخ، ومطالبة باجترار التاريخ، بل للاستفادة من الماضي، لأنها تجربة قابلة للتقييم الآن. إضافة إلى تغيير التمثلات والقيم الاجتماعية حول المدرسة والمدرس والمتعلم، وكذا توافق قيم المدرسة وقيم الأسرة وتناغمهما. وتابع: إن ما وسم فترة المرحوم أحمد بوكماخ أنه تصورٌ للتعليم مبني على خبرة شخصية ممتدة على سنوات دراسية، أعطت أكلها في حينه. لكن منطق العلم وتطور البحث، يستلزم حاليا تأسيس التعليم على نتائج الأبحاث المنجزة في علوم مختلفة تتناول التعليم والمتعلم وسياق التعلم وبيئته. واعتبر أن المنطلق يبدأ بالضرورة من تغيير المواقف: مواقف المدرس من التلميذ ومواقف التلميذ من المدرس، ومواقف المجتمع بكل مكوناته من المدرسة.
وأضاف أن معالجة العنف باعتباره نتيجة متمظهرة للعيان وقابلة للقياس،تستدعي استجلاء المرتكزات الأساس لترسيخ السلوك الملائم لدى للمتعلم(أي السلوك المدني)، وأن تأسيس نظام تربوي “مدني” أيضا يستلزم ثلاثة عناصر متكاملة، تؤطرها ثلاثة تخصصات علمية أو توجهات داخل التخصص. لخصها في مراعاة المقتضيات البيئية في تشييد المدارس وتجهيز فصول الدراسة وتزيينها (العوامل الخارجية): علم النفس البيئي. وتحسين العلاقات التواصلية مع المتعلم وتشجيعه على الحوار والتعبير عن أفكاره (العوامل العلائقية): العلاج النفسي المعرفي والعلاج النفسي المتمركز حول الشخص. وفهم البنية المعرفية للمتعلم وتكييف مضامين المقررات الدراسية ومناهجها وفقها (العوامل الداخلية): علم النفس المعرفي وعلم النفس العصبي المعرفي. وأن الهدف من التعليم هو تكوين شخصية متوازنة: سلوكيا، ومعرفيا، ووجدانيا.
وخلص المتدخل، من خلال تقديمه لعديد من النماذج والأمثلة حول المتعلم، إلى أننا نعرف هذه المعلومات والمعارف، ولكن، ليس لدى الطفل المغربي بل لدى طفل آخر أكثر حظا من الطفل المغربي، ونحاول تطبيقها عليه، بدواعي تأطيرها ضمن إشكالية الفطري والمكتسب. وإن طرح في هذه المرحلة الاختيار بين استيراد معرفة خارج سياقها لتطبقها على وسطنا، يفضل المتدخل اعتماد تجارب شخصية على استيراد أو تعريب مضامين ومناهج في تعليمنا، لأنها تربي جيلا خارج سياقه، أو جيل جسده هنا وقيمه وتمثلاته وتصوراته هناك. ولتفادي هذا التنافر، يرى المتدخل أننا نحتاج، الآن، وبشكل “مستعجل” إلى تكثيف دراسة المتعلم المغربي لربط مقتضيات التعلم بخصوصيات المتعلم. ويمكن أجرأة هذه الخطوة في تمتين الشراكات بين الجامعات والأكاديميات تراعى فيها خصوصيات كل جهة من الوطن. ونبه المتدخل في الأخير، على أن أي إصلاح الآن لا يأخذ بعين الاعتبار السياق التكنولوجي الحالي وتطور شبكات التواصل الاجتماعي، محكوم بالفشل لا محالة.
تقنيات التواصل والإقناع والتفاوض: من أجل التربية على القيم
أكد الدكتور إسماعيل علوي أستاذ علم النفس الاكلينيكي أن من بين أهم الأسئلة التي أصبحت تفرض نفسها بإلحاح الآن، عندما نكون بصدد التفكير في أسباب الاختلالات والأعطاب التي تعاني منها المؤسسة التعليمية في المغرب، هي : لماذا لا يحب المتعلم مدرسته؟ لماذا وجود هذا القدر من التوتر والنفور في العلاقة بين المتعلم وفضاءات المدرسة؟ لماذا العلاقة بين المدرس والتعلم، محكومة بأحكام مسبقة وتمثلات سلبية؟ وأخيرا، هل رهانات المدرسة المغربية اليوم، هي تعليمية – تقنية أم تربوية – قيمية؟ . ويرى المتدخل أنه من البديهي أن انعدام آليات التواصل الإيجابي والفعال وأدوات الحجاج وأساليب الإقناع والتفاوض داخل المؤسسات التعليمية، يفضي هذا الوضع إلى تنامي العنف المدرسي بكل أشكاله. ويبقى الرهان الحقيقي، هو كيف يمكن ترسيخ السلوك المدني داخل المدرسة؟ ما الحلول المتاحة من أجل التربية على القيم والتقليص من وثيرة العنف المتنامي داخل فضاءات المدرسة ومحيطها؟. مشيرا أنه إذا اعتبرنا أن المدرسة لها أدوار فعالة وإيجابية في تغيير سلوك المتعلم وتلقينه مختلف أنواع المعارف والمعلومات، ودفعه إلى ولوج التفكير الصوري المجرد، فإننا في هذا السياق لابد من إبراز العامل الوجداني ودوره في تحفيز المتعلم وتمكينه من الوعي بقدراته الذهنية وكفاءاته المعرفية. وإذا كانت المعرفية تؤكد أن الطفل يمتلك كفاءات مبكرة، وله القدرة على مراقبة سلوكه ومعارفه، ويستطيع توظيفها في أنشطته اللغوية والرياضية والتواصلية، فهل يمكن اعتبار تشخيص هذه الكفاءات المعرفية وتقويمها من أجل البحث عن أفضل الطرق لتنميتها وتطويرها، يعد عملا كافيا لتشجيع المتعلم على الاستقلالية والإبداع والتفكير النقدي والحر، ولتحفيزه كذلك على الاجتهاد والاستمتاع بالتعلمات المدرسية؟. من هذا المنطلق، خلص إلى أنه يمكن إيجاد الجسر الذي سيجعلنا ننتقل من بيداغوجيا الكفاءات إلى بيداغوجيا التحفيز، التي تقوم على مبدأ خلق المتعة لدى المتعلم والرغبة في الانخراط داخل الأنشطة المدرسية، وجعله يكتشف كفاءاته الكامنة. وإن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية التي شهدها المجتمع في السنين الأخيرة، جعلت المدرسة تتراجع عن دورها في مواكبة حاجيات التلاميذ وانتظاراته مع مستوى إعداد برامج مدرسية ملائمة واعتماد وسائل ديداكتيكية مناسبة. وهذا ما ساهم في توتر العلاقة بين المتعلم والفضاء المدرسي. ولتصحيح هذا الوضع، يرى ضرورة تأكيد أهمية بيداغوجيا التحفيز ودورها في بناء الرغبة في التعلم، وذلك من خلال توظيف الطاقة الوجدانية للمتعلم في الانتباه والتركيز وحفظ المعلومات في الذاكرة. وكذلك من أجل تشخيص الذكاء الوجداني لدى المتعلم وتنميته وتطويره، في تدبير المشكلات واتخاذ القرارات ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، أوجب توفر علاقات تربوية سوية وبيئة مدرسية سليمة داخل المؤسسة التعليمية، من خلال امتلاك المُدرس (ة) والإدارة التربوية، أدوات التواصل الفعال والإيجابي وتقنيات الإقناع والتفاوض. هذا بالنظر إلى التأثير السحري للغة على المستمع. فمهمة اللغة لا تتحقق فقط في تمثل العالم، وإنما قد تتحول إلى أفعال يستطيع الإنسان بها تغيير العالم، حيث تتحول أفعال اللغة إلى أفعال للتواصل، وبالإمكان تغيير عواطف الآخرين وأفكارهم وسلوكهم والتحكم في ميولهم وقراراتهم وتوجهاتهم، وبالتالي الحصول على المردودية التربوية المرجوة في أفق ترسيخ السلوك المدني ونشر التربية على القيم. كما أكد أن أساليب التفاوض التي تعتمد على الحوار المقنع والهادئ والاستراتيجي، أصبحت من بين أهم الآليات التي على المُدرس (ة) والإدارة التربوية التسلح بها وتعلم مهاراتها، وذلك من أجل حل النزاعات وتدبير الخلافات والأسباب المؤدية إلى العنف بمختلف أشكاله.
وعموما، يرى الدكتور اعتماد مقاربة ميكرو تشخيصية والوقوف عند الوضعيات والأسباب الدقيقة والتفاصيل الصغرى التي تفضي إلى النزاعات والعنف المدرسي، قد تمنحنا إمكانية التفكير في أشكال التدخل وطرق حل المشكلات المدرسية أو على الأقل التقليص من حدتها أو تطويقها. وفي هذا السياق طالب الوزارة المعنية بالتفكير في توفير الإرشاد النفسي المدرسي داخل المؤسسات التعليمية على غرار التجارب المعتمدة منذ سنوات، في الدول العربية، بالنظر إلى المهمات والأدوار الكبيرة التي على المرشد النفسي إنجازها والرهانات الصعبة التي عليه تحقيقها. ويبقى حسب رأيه أن السبيل الأنسب والفعال لترسيخ السلوك المدني ونشر التربية على القيم، هو تعميم ثقافة الحوار والتواصل الفعال ومنطق المحاجة والإقناع. هذا إذا أردنا من الأجيال القادمة أن تتعلم قيم التسامح وفن الإنصات واحترام الرأي الآخر وقبول الاختلاف والتفكير الإبداعي والنقدي والحر.
تنمية السلوك المدني بالمؤسسات التعليمية: من المقاربة التربوية إلى المأسسة القانونية.
يعتبر الدكتور مدكري فؤاد، أستاذ التعليم العالي في القانون والتشريع التربوي أن النقاش الدائر اليوم حول الأدوار الـمنوطة بالـمدرسة تجاه السلوك الـمدني، هو نقاش يستحضر حجم هذه الـمؤسسة وطبيعة وشكل وظائفها تجاه الـمجتمع، غير أن هذا لا ينبغي أن يحجب أهمية الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها قطاعات وفعاليات أخرى، من خلال الاشتغال الـمتكامل والـمنسجم للتربية على “السلوك الـمدني” وترسيخه وتنميته داخل المجتمع، وإلا فسيظل أداء الـمدرسة – على الرغم من أهميته – معزولا ودون تعزيز وتثبيت، ودعم ، من باقي مؤسسات الدولة والـمجتمع المدني معا. وأضاف أن تجربة قطاع التربية الوطنية بالمغرب في مجال التربية على حقوق الإنسان والمواطنة، بدأت كمساهمة في تنمية السلوك المدني، حيث ظهر هذا المصطلح في أدبيات وزارة التربية الوطنية، بشكل علني وواضح ومستعمل، مع إعلان العشرية الأممية للتربية على حقوق الإنسان 2004 -1995 وكذا في وثيقة ميثاق التربية والتكوين. وأنه سيتم تكريس هذه الغايات ضمن الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم 2015- 2030 من خلال التأكيد على: وجوب تحديد مرتكزات التغيير المنشود،عبر مدرسة جديدة قوامها : الإنصاف وتكافؤ الفرص؛الجودة؛ الاندماج الفردي والارتقاء المجتمعي.
ويرى أن هذا التحول في المنظومة التربوية المغربية حدث ضمن استراتيجية وطنية عامة همت: مراجعة المناهج والبرامج التربوية وفق متطلبات إصلاح منظومة التربية والتكوين التي حددها الميثاق الوطني للتربية والتكوين – والتي تعمل الوزارة حاليا على أجرأتها – من خلال مجموعة من التدابير ذات الأولوية.
و أن هذه المقاربة التربوية – كمستوى أول – تهدف من خلال مدخل المناهج والبرامج والكتب المدرسية، إلى نشر قيم التسامح والتعاون والتعايش والحوار، وقبول الاختلاف والوعي بالحقوق والواجبات، والانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى، والتشبع بكل القيم النبيلة واكتساب المعارف النافعة واتخاذ المواقف الإيجابية. أما المستوى الثاني، في نظره، فمن خلال مدخل أنشطة الحياة المدرسية، وعمل الأندية التربوية التي تقوم على غرس القيم النبيلة وتعزيز الاقتداء بالسلوك الحسن، وتشجيع المواهب وتحفيز التفوق في كافة المجالات، وجعل فضاءات المؤسسة المدرسية مجالا ممتعا للتحصيل الجاد، لتصبح مفعمة بالحياة كي تساعد على اكتشاف وصقل المواهب وتحفيزها،وتمكين المتعلمات والمتعلمين من وسائل الانخراط في الأنشطة اليومية: التربوية والثقافية والفنية والاجتماعية المختلفة. وتبقى في رأيه المقاربة القانونية المؤطرة لنبذ العنف وتنمية السلوك المدني، مهمة باعتبار أنها تهدف إلى تأطير وتأمين المدرسة وتنظيم مختلف العلاقات داخلها، بما توفره من نصوص قانونية مختلفة تكفل النظام والاستقرار والأمن النفسي والمهني والاجتماعي. وهي مقاربة ذات أبعاد تربوية، تحفز على اكتساب المعرفة القانونية والاقتداء بنصوصها من أجل تنظيم المجال، وصياغة مواثيق عمل المجموعات المختلفة، وانفتاح المتعلمين على ثقافة الحق والواجب وقيم العدالة والإنصاف وقيم المسؤولية والمحاسبة.