محمد آيت علو
يقف على حافة الحفرة الواسعة العميقة، قرب الجبل المجاور للمدينة شارد الذهن،ضائعا في خفايا نفسه، بقلب محاط بالهموم، وبكثير من التعب والضجر،بدا سيء الحال، مضطرب المزاج،وقد أضاع وجهته، أنهك خطوه دون جدوى واشتد به الحزن، يتقدم بقلب واجف راجف متردد،يضع رجليه على مراوح الهواء،ثم غاب في بكاء طويل، مثل بكاء كل كامش عند موت صديقه إنكيدو…فجأة هدأ وبدأ يخطو بخطوات متثاقلة على الحافة، دافعا بشقه العلوي إلى الأمام نافخا صدره رافعا رأسه باسطا يديه كالبهلوان تماما، وهو ينظر إلى بعض البرك المائية من جراء أمطار أول الأمس،وإلى الأبنية المحيطة الشديدة البياض، ذلك اللون الذي حلم به كثيرا وعشقه لحياته، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفنُ، وهو لايملك منها حتى الشراع، فكيف يحلم؟ كان قبل قليل قد ارتسمت على محياه ابتسامة شيطانية، يتقدم رويدا رويدا كمن ينفخ بالونا، ثم هو يُبالغ ويتجاوز الحد في النفخ…بعدما أن راودته فكرة، عزم على تنفيدها، لكنه يحس بأنه ثابت، متصلب ومتجمد عاجز…، الخوف والتردد لايفارقانه على الدوام… أحس بجوع شديد قبل الإقدام، أراد أن يتراجع،لكنه أحس بثقل، ولم يستطع، تسمرت قدماه على شفا هوة الحفرة وقد غرقت نسبيا في الوحل، تراقصت عيناه…بدأ يحقق بنظرات مرتعبة، وقد بدت الحفرة عميقة سحيقة جائعة…وهو ينظر بنصفه العلوي،لكنه سرعان ما تلاشى ىمثل الدخان،أو برق خاطف، أو فرقعة البالون وقد تجاوز حد النفخ، فلم يكد يقاوم أو يشعر حتى هوت رجلاه بعدما علتا فوق الحصى والوحل، ثم سقط فجأة من على السرير…وانزلق الفراش وجرف معه الغطاء..أحس بألم في ظهره، فقد كانت الأرض عارية….كفارس وحلم يسقطان معا على صخور الواقع القاسية…
حين لاينجو الغريق إلا بقشة، هكذا دوما سواء في المصائب التي تنهال عليه ولا تأتي فرادى كالمعتاد، أو في انفراجها لما تضيق حلقاتها، بعدما أن ظن بأنها لن تفرج، وتبقى المعاناة والمكابدة نفسُها اليوم، كما الأمس والأيام الماضية، لاشيء تغير، فلكم قاسى من عثرات العمل، ومن عثرات الطريق، ورعشة البرد القارس، ربما هذا ما يفسر نومه بملابس العمل وحذائه…وحينما نهض من على الأرض في ركن بيته القصي المظلم، وجد نفسه كمن فقد ذاكرته، حيث تداخل عنده الليل بالنهار، ولم يعد يدرك أي ساعة يتواجد فيها…
أمام المرآة وهو يغسل وجهه، بدا كهلا بوجه متجعد ممتعض وسمين، وشعر أبيض كثيف، مط شفتيه إلى الخارج أكثر من اللازم مثل البهلوان مرة أخرى…ارتسمت على وجهه علامات غضب جارف، تحول إلى شخصية أخرى يمقتها، شخصية سلبية ذليلة، لا كرامة لها ولا قيمة، شخصية يحتقر تصرفاتها، لكنه لا يجرؤ على التصريح…شعر بنيران الحنق تتأجج في دواخله، شعر أنه لو التف حوله سيعتصر أنفاسه، فقد تراءت صور ووجوه أعدائه اتباعا، ومعها المحن التي لاتنتهي، فعما قليل سيطرد من العمل على الرغم من الأجر الزهيد الذي يتقاضاه، وهو أيضا مهدد بترك البيت والإفراغ، لأنه لم يسدد الإيجار منذ شهور خلت، ولن يبق له بيت يداريه ولو في الخيال، سنوات أخرى من الضياع…ثم قال في نفسه لماذا أنا بالذات؟ لماذا ينظرون نحوي هكذا؟ ماذا جنيت؟ ما هذا الضعف والخور؟ لم تصير أضحوكة هكذا؟ كم أنت مقيت…ويحك…كن قويا..لا مكان للجبناء في هذا العصر…وأصدر ضحكة صارخة، تراجع من أمام المرآة قليلا، ثم عاد حاملا الطلاء الأسود كالقطران والفرشاة، وبدأ يغطي وجه المرآة بالطلاء الأسود…يصب جام غضبه عليهم الواحد تلو الآخر بهذا الطلاء، يصبه يغطي وجوههم التي لم يقوَ على مُواجهتها،ويشتمُ في الوقت نفسه…يستطيع الآن بأن يرد لهذه الوجوه الصاعَ صاعين، هولم يستطع مجابهة كل أعدائه طوال اليوم الذي يقضيه خارجا..بدءا من أنسابه ومدير المعمل الذي يشتغل فيه، وزملاءه في العمل،وجاراته اللمازات،وجيرانه الحقودين والفضوليين…دوما يتجاهل رعونتهم ولمزهم وغمزهم،وأخيرا نظراتهم التي أصبحت تزعجه بحق، ثم ينظر بعيدا كما جرت العادة في مثل هذه المواقف متجاهلا سهامهم الحادة….
إنه يواصل العمل من الصباح إلى حدود منتصف الليل…وفي أسبوع آخر من الليل إلى المساء…ثم يعود مهرولا إلى بيته كالبهلوان مرة ثالثة، متجنبا الوجوه المقنعة.. يخطو بخطوات واسعة كمن يأكل الطريق…لايرتاح ولا يهدأ له بال، حتى يفتح باب بيته…ثم يدلف ليلقي بجسده المنهوك على السرير…غير مكترث بشيء، الكلل والضجر أكلا منهُ الكثيرَ،ولاشيء تحقق…
فجأة، بصيص سعادة تتسلل إليهالآن مشوبة بحذر، تترنح في عينيه كالوله، وهو يواصل حجب وجه المرآة بالطلاء الأسود…إنه يقضي على كل الوجوه الكالحة المريضة التي يصادفها يوميا…يحاول أن يبددها ولو أمام المرآة، يتخلص منهم جميعا ويمضي…وعلى الرغم من الجوع، فقد أحس بغثيان غامض يسكنه، وتمنى لو توافرت جرعة ماء..لم يأكل شيئا منذ مدة طويلة..، لكم تمنى في هذه اللحظة أن يجد من يهيء له ولو لقمة، كان يرى نفسه فارس أحلام مرغوب فيه جدا،ولا يُشَق له غبار، لكن هيهات هيهات لما يوعد، فكل شيء تبخر، فحتى الآن لم يجد الإنسانة التي ستفهمه في هذا العالم كما يدعي دوما، الآن تملكته رغبة ملحة في الزواج، والعمرُ يمضي بلا هوادة، منذ بضعة أشهر ارتخى وجهه نسبيا، وهو بانتظار أن تغمز صنارته في ركن الزواج بإحدى المجلات، ولكن الأمر مرة أخرى يغدو مستحيلا…وأخيرا توجه نحو المطبخ،ثم انهمك بإعداد وجبة سريعة..ومن شباك المطبخ ظهرت شابةٌ وديعةٌسامقةٌ مرتويةُ الملامح، بمواجهته مباشرة، تتطلعُ ثمتقفُولاتلتفت، وتتكلمُ بنبرة حادة…كان ما يجري أمامه قد وصل إلى مرحلة انفلات الأصوات…أصداء الموسيقى والمتعة سارية في الجهة الأخرى الآن…رآها وقد مالت إلى باقة من الزهور لتسويَ أطرافها المتواجدة في الرف…لم هو مجبرٌ من رؤية كل ما يمكنُ أنيدفعه إلى مأزق ما، حتى لايعير النظر دافعا للهجوم أو للعقاب، يغمض عينيه، يظهر اللامبالاة، يستقر داخل حالته، كأنه منقطع عما حوله، لا يعنيه شيء….ثم ما لبت أن عاد إلى غرفة النوم، فأسند قامته ورأسه بشعره الطويل للباب، كمن يسند جسده على جذع الكرامة والهموم، نظر جهة السرير، المائدة والملابس والوسادة والأغطية كلها ملقاة على الأرض، نظر إلى السقف فوق رأسه والحيطان، تذكر خرير سقفه أيام الشتاء، بدا له البيت ضيقا صغيرا كالسجن، فقد رآه ضيقا من أفقه، وفكر في إطلالة من الشباك ولم يفعل في المرة الأولى، وكالبهلوان مرة ثانية يطل من الشباك في الوهلة الأخيرة، رأى ستار النافذة تتمايلُ، على وقع نسائم باردة عليلة، والبدرُ يرسل أشعتهُ البيضاء، توهج قلبهُ قليلا، ابتسمَ هذه المرة كثيرا، ذلك أنه عزم على قص قطعة من السماء الزرقاء الصافية على حقيقتها، وتكديس متاعه القليل، وجمع بيته ولاسيما غرفة نومه، ليلفكل ذلك في حزمة منديل، ويضعها في طرف عصا، وليمتشقها بعد ذلك ويقفز كالبهلوان،وقد ساوره إحساس أنه صار مثل الساحر ليس إلا، وينطلق على متن الريح كالبرق الخاطف، وهو يطير بسرعة مرة واحدة، ودَّعَ البدر خلفَ الأفق، وفر كدُب القطب وحيدا، حيث الثلج الأبيض الناصع لانهاية له…