الرئيسية / اقلام حرة / فاجعة قطار”بوقنادل” : الوجه الآخر للمأساة ..

فاجعة قطار”بوقنادل” : الوجه الآخر للمأساة ..

– عزيز لعويســي

ما حدث في “بوقنادل” يستدعي -أولا- تضامن جميع المكونات المجتمعية مع الجرحى المصابين الراقدين في المستشفيات والترحم على من انطفأت شمعة حياته وهو في الطريق إلى العمل أو الدراسة أو لقضاء مآرب خاصة ومواسىات الأسر والعائلات المكلومة التي فقدت عزيزا أو قريبا، ويقتضي -ثانيا- تسليط الضوء على الوجه الآخر لهذا الحادث الذي يعد الأكثر مأساوية في تاريخ النقل السككي الوطني، وجـه يبـــدو كمرآة عاكسة لوضعية مجتمـــــع يعيش اختلالات بنيويـة على مستــــوى المواطنة والقيم والمبادئ والأخلاق ، يمكن رصد بعض ملامحه على النحو التالي:

مباشرة بعد وقوع مأساة قطار”بوقنادل”، حتى تقاطر على مكان الحادث مجموعة من المنحرفين ليس من باب الفضول لمعرفة ما جرى ولا من باب تقديم الدعم والمساعدة للضحايا في انتظار قدوم سيارات الإسعاف والسلطات المختصة، بل استغلوها فرصة وعمدوا – كما روى ذلك عدد من شهود العيــــان – إلى تعريض الضحايا ومنهم جرحى وموتى إلى سرقة حقائبهم وهواتفهم النقالة، في لحظات حرجة انحط فيها الحس الوطنـــي ومات فيها الضمير الإنساني.

صورة أخرى لا تقل مأساوية، وتتعلق هذه المرة بعينات من الأشخاص الذين يستغلون الأزمات الصعبة واللحظات الحرجة ويحاولون الركوب عليها لتحقيق مصالح شخصية ضيقة، كما تردد في كثير من مواقع التواصل الاجتماعي حول إقدام مجموعة من سائقي سيارة الأجرة – حجم كبير- التي تؤمن الرحلات اليومية بين سلا والقنيطرة، على الرفع والزيادة في الأثمنة مستغلين توقف حركية القطارات والحاجة الماسة للمواطنين للسفر والتنقل، وهي تصرفات مخلة بقواعد الأخلاق وواجبات المواطنة في أزمة تقتضي التعاون والتآزر و التضامن، وهذه التصرفات أضحت مألوفة في المدن كما في القرى خاصة في الأعياد والمناسبات الدينية (عيدالفطر، عيد الأضحى) والعطل المدرسية و العطلة الصيفية وفي زمن الكوارث الطبيعية والبشرية، حيث يلجأ عادة أرباب النقل إلى الرفـــــع من تسعيرة الركوب غير مكثرتين بالقوانين الجاري بها العمل، سعيا وراء تحقيق الأرباح على حساب مواطن مغلوب على أمره ليس أمامه سوى الرضوخ والانصياع للأمر الواقع في غياب تام لمراقبة الجهات والمصالح المعنية التي لابد أن تتحمل مسؤوليتها كاملة في الأيام العادية كما في الأيام الاستثنائية.

فسواء تعلق الأمر بحالة “المنحرفين” الذين استغلوا الفرص لتعريض أناس ضحايا للسرقة، بدل تقديم المساعدة لهم وفقا لمقتضيات القانون وواجب المواطنة، أو بحالة “سائقي الطاكسيات” الذين رفعوا من أثمان رحلة السفر مستغلين ظروف الفاجعة وتوقف القطار و الحاجة الملحة للتنقل، كلها سلوكات تعكس بما لا يدع مجالا للشك، ضعفا في مؤشرات المواطنة لدى فئات من المجتمع تلاشى عندها الحس الوطني و الأخلاقي، وهي سلوكات تستوجب الإدانة والزجر، لأن الحدث يقتضي التضحية ونكران الذات والانخراط الإيجابي في ما يقتضيه واجب المواطنة من دعم ومساعدة وتآزر و تضامن، فالوطن ليس فقط مطالبة بحقوق كالسكن و الشغل و الصحة و التعليم و الأمن، بل هو أيضا واجبات متعددة المستويات، تبدأ بالالتزام بالقوانين واحترام المؤسسات مرورا بتحمل المسؤولية والتضحية ونكران الذات والتحلي يقيم النزاهة والاستقامة، وانتهاء بالتضامن و التكافل و التعاون أوقات الأزمات و الكوارث والحرص على الدفاع عن المصالح العليا للوطن…

لكن بالمقابل فقد أبانت المأساة عن سلوكات أخرى مواطنة مشبعة بقيم التعاون والتضامن والتآزر، وقد تجسد ذلك في سلوكين راقيين، تعلق الأول منهما بالإقبال غير المشروط لعدد من المواطنين على مراكز تحاقن الدم من أجل التبرع في إطار خطوات و سلوكات مواطنة حركتها الرغبـــــة في الوقوف إلى جانب الضحايا خاصة الذين يتواجدون في حالات صحية حرجة ، والثاني عبر عنه بعض السكان المحليين المقيمين على مقربة من مكان الفاجعة، بفتحهم لأبواب بيوتاتهم أمام المسافرين في مبادرات تضامنية تستحق كل الثناء والتقدير…

عموما، نجدد الرحمات على من قضى نحبه، والتضامن مع الجرحى و المعطوبين الذين يلزم إحاطتهم بما يكفي من الرعاية والاهتمام، والقضاء مطالب بالكشف عن حقيقة ما حصل وتنوير الرأي العام في إطار “الحق في المعلومة” لتحديد المسؤوليات، والمكتب الوطني للسكك الحديدية وفي ظل تعاقب حوادث القطارات، هو مطالب اليوم بتجويد خدماته على جميــــــــع المستويات، وأمامه تحدي كسب رهان “القطار الفائق السرعة” الذي سيفرض بدل المزيد من الاحتياطات خاصة على مستوى تدابير الأمن والسلامة، وهو قبل ذلك مطالب بتحمل كافة مسؤولياته المدنية كجهة ناقلة، والحرص على تقديم جميع أشكال المساعدة والتوجيه والمعلومة والإرشاد لذوي الضحايا والجرحى المصابين حتى يتسنى الحصول على الحقوق المخولة لهم قانونا في إطار المسؤولية المدنية المغطاة من قبل شركة التأمين، أما الدولة فهي مدعوة لاستثمار ما حصل، لبلورة “رؤية استراتيجية” قادرة على تدبير أمثل لمختلف الأزمات والمخاطر المحتملة تفاديا للارتباك والارتجال .

-كاتب رأي، أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك التأهيلي بالمحمدية. باحث في القانون وقضايا الأمن والتربية والتكوين.
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *