جرت العادة، والعادة هنا مصدرها التاريخ ومنطق الأشياء، أن تُفضي ثورات الشعوب على الاستبداد إلى سقوط حكامها المستبدين، وإلى أن تتلو ذلك إعادة بناء الدولة على أسس “جديدة/قديمة” كانت إلى وقت قريب تشكّل قاسماً مشترَكاً بين فصائل الثوار المختلفة، ثم إلى وقوع توافق أدنى بين الفصائل الثورية على منظومة للحكم، ولتدبير الشأن العام، تكون موضوع إجماع فيما بينها، أو على الأقل، تحظى بموافقةٍ متعددةِ الأطراف على مبادئ وخطوط كبرى ناظمة، من شأنها أن تساعد على صياغة دستور جديد يقطع مع دستور الحاكم المستبد، ولو لفترة عابرة يتم فيها التوافق على الشكل الجديد لنظام الدولة ومؤسساتها، ويُسَهّل مأموريةَ إقرارٍ مشترَكٍ لفترة انتقالية تأتي بعدها استحقاقات تُفرز برلماناً مكرِّسا للوحدة الوطنية، وحكومة مجسدة لهذه الوحدة ولو بأغلبية معقولة، ثم يأتي على ضوء كل ذلك رئيس للنظام الجديد يحظى بقبول أغلب فئات الأمة ويستأثر باحترامها في إطار ديموقراطي كفيل بتحقيق حد أدنى من الاستقرار… وهذا الاستقرار حيوي ومصيري لأنه سيؤطر لإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الاستعجال!!
هذا هو الإطار العام الذي يُفترَض أن تنتهي إليه أيُّ ثورة على أيِّ نظام استبدادي بغض النظر عن إحداثياته الجغرافية والزمانية… فما الذي حدث في سوريا الثائرة؟ وما الذي قد يحدث بعد انتصار ثورتها على الدكتاتور بشار الأسد، الذي لم يكن سوى صورة مستنسخة من والده حافظ الأسد؟!
بمناسبة ذكر حافظ الأسد هذا، أذكر أنه ذات يوم أمطر معارضيه بالرصاص الحي، وعندما لجأت مجموعة منهم إلى المسجد هرباً من زبانيته ضرب بمدافع دباباته صومعة المسجد فأسقطها على مَن كانوا بداخله بلا رحمة، ودون أدنى احترام لبيت الله، بالرغم من إدراكه لكون تلك الفئة من معارضيه لم تلجأ إلى المسجد إلا لإيقانها بأنه المكان الأكثر أماناً في العالَم، وهذا يدركه العالَم برمته بكل اللغات واللهجات!!
لقد نجحت ثورة الشعب السوري إذَنْ في إجبار بشار الأسد إلى الفرار، ولكن الذي حدث موازاة مع هذا النصر لم يكن يبشر بأي خير، حيث انتشرت عبر وسائل الإعلام والتواصل مشاهد مخزية لمقاتلين انخرطوا في نهب بيوت عمومية كثيرة من بينها القصر الرئاسي، والأبناك والمصارف، بالرغم من النداءات التي كان بعض ضباط الثورة يطلقونها عبر مكبرات الصوت، والتي كانت تدعو المقاتلين إلى حقن دماء النساء والأطفال والعجزة، وعدم التعرض بالسوء لممتلكات الدولة، التي هي ممتلكات لكل السوريين… وبالرغم من ذلك وقع المحظور!!
بالإضافة إلى هذا المنحى المنحرف، نشرت وسائل التواصل مشاهد لعمليات إعدام لبعض أفراد عائلة الرئيس المخلوع وبعض مساعديه الأقربين، بلا محاكمات، وبلا أدنى حرص على تمكين هؤلاء من حقهم في الدفاع عن أنفسهم، أو في إعلان التوبة عن مساراتهم السابقة والتي من المؤكد أن بعضهم كان فيها “مضطرّاً لا بطلاً”… فمَن كان منهم قادراً على التمرد على أوامر الرئيس السفاح في أوج هيمنته وسيطرته وجبروته؟!
هناك الآن أمر آخر في غاية الأهمية: ذلك أن القوات الثائرة لم تكن وما كانت أبداً على قلب رجل واحد، فمنها من ينتمي إلى جماعة النصرة، ومنها من ينتمي إلى داعش، أو القاعدة، وكل هؤلاء ذوو مرجعية أصولية سلفية متطرفة بالغة التميّز والاختلاف عن باقي مكونات الثورة؛ ومنها الأكراد، الذين يحملون مشروع الانفصال، ويحلمون بإعادة إنتاج تجربة أكراد العراق، والتمتع على الأقل بوضعية الاستقلال الذاتي؛ ثم هناك جماعات أخرى غير معلومة المرجعيات… والأصعب في هذا التكوين الفسبفسائي أن بعضه يتبع لتركيا، وقطر، وبعضه تابع لروسيا، وبعض آخر يُدين بالتبعية لأمريكا إلى درجة التنسيق مع مخابراتها المركزية ومخابرات الدولة العبرية… وكل هذا من شأنه أن يجعل تحقيق أي إجماع على ذات النهج وذات البرنامج مطلبا صعب المنال حتى لا أقول إنه مستحيل بكل المعايير… فكيف سيكون شأن هذه الثورة؟ وكيف سيكون مآل سوريا في النطاق الضيق لكل هذه المفارقات؟!
هل سيتمكن الثائرون المنتصرون من التوافق على تدبير فترة انتقالية ضرورية ولازمة؟
هل سيستطيعون أثناء هذه الفترة أن يحققوا ولو حدا أدنى من التوافق حول دستور جديد يستجيب لتعدد واختلاف مرجعياتهم السياسية والعقدية على أساس أن يكون ذلك الدستور قانوناً أسمى لما يمكن تسميته “دولة وطنية جامعة لكل مكوناتها على قدم المساواة”؟
هل يستطيع ذوو المرجعيات الأصولية والسلفية أن يتعايشوا مع دستور يقوم على مبادئ علمانية المصدر، مادامت الدولة الوطنية مستحيلة التحقق في ظل دستور سلفي أصولي يعود بسوريا إلى عصر الخلافات الراشدة، التي يتضح الآن بفضل تكنولوحيا الإعلام والاتصال والتواصل أنها لم تكن راشدة إلا في مخيال مُقدّسيها الإسلامويين؟
هل ستترك أمريكا وإسرائيل وتركيا وإيران وقطر وغيرها ما يكفي من المسافة إزاء تلك المكوّنات الثورية المختلفة والمتباعدة فكراً ومرجعيةً حتى تحقق فيما بينها حداً أدنى من ذلك التوافق المنشود؟!
نهايته… إن نجاح أيّ ثورة كيفما كانت مرجعياتُها لا ينحصر في هزيمة النظام المستبد الذي قامت من أجل الإطاحة به، وفي فرار رأس حربة ذلك النظام باتجاه المجهول، بل إن نجاحها سيبدأ في الواقع بمجرد استطاعتها تحقيق الحد الأدنى من التوافق حول ما ينبغي أن يكون عليه الأمر بعد الثورة، وإلا فإنها لن تخرج عن نموذج الثورات العراقية واليمنية والليبية والتونسبة الفاشلة… والتي آلت إلى مزيد تفرّق وتشتت، وإلى إراقة المزيد من الدماء بأدي الثوار أنفسهم مدفوعين إلى ذلك باختلافاتهم التي تحوّلت إلى خلافات لا تنتهي… نسأل الله السلامة والعافية والأمن والأمان لسوريا الشقيقة!!
___________
محمد عزيز الوكيلي
تربوي.إطار