عزيز لعويســي
– وضعيــة اجتماعيــة مقلقـــة :
اتسعت دوائر الاحتقان الاجتماعي في السنوات الأخيرة، وأضحت الشوارع ومواقع التواصل الاجتماعي مقصدا للاحتجاج و البوح والمطالبة بالحقوق المشروعة من شغل وصحة و سكن وأمن وكرامة و غيرها، في غياب شبه تام للقنوات الرسمية من حكومة وبرلمان(المعارضة) وأحزاب سياسية ونقابات …والتي من المفترض أن تصغي لنبض الشارع وتستعجل الحلول الممكنة وفق الإمكانيات المتاحة، مما عمق الأزمة وكرس فقدان المواطنين للثقة ليس فقط في علاقتهم بالفاعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل أيضا في الممارسة السياسية و الانتخابات والديمقراطية المزيفة والأحزاب السياسية والنقابات وغيرها، فمن مأساة “التدافع” بالصويرة مرورا بأزمة العطش بزاكورة ومأساة مدينة “البؤس” (جرادة) وحراك الريف الذي وضع الحكومة في مأزق حرج، وانتهاء بالهجرة غير المشروعة التي كانت سواحل الشمال مسرحا لها خلال الأسابيع الأخيرة، حالات وحالات أخرى كثيرة لا يسع المجال لإثارتها، كلها تعكس أزمة اجتماعية عميقة وصلت إلى حد المطالبة الجماعية بالهجرة نحو الخارج والتهديد بإسقاط الجنسية والهروب الجماعي من الوطن، كما عبرت عن ذلك شعارات رفعت في إحدى الدواوير العشوائية التي طالتها عمليات الهدم بالدارالبيضاء (عين السبع)، مما مس بسمعة الوطن وأعاد إلى الواجهة موضوع “المواطنة” التي بدا واضحا أن مؤشراتها ضعفت بشكل مثير للقلق، وهذا الوضع الهش أرخى بضلاله على المشهد الأمني، حيث اتسعت بؤر الجريمة وأضحى حمل الأسلحة البيضاء (مديات، سيوف) وسيلة للتباهي واستعراض القوة في الشوارع -أمام عناصر الأمن أحيانا- وفي المواقع الاجتماعية بشكل يقوي الإحساس بانعدام الأمن لدى المواطن.
بمعزل عن لغة الواقع التي تعبر عن عمق الأزمة التي يشهد بها الجميع ، وباستقراء التقارير التي تصدرها المنظمات والهيئات الدولية سنويا حول قضايا التنمية البشرية ومستوى الفساد و الرخاء الاقتصادي عبر العالم، يتبين أن المغرب يحتل مراتب غير مشرفة في عدد من المؤشرات، منها -على سبيل المثال لا الحصر- المرتبة 123 عالميا على مستوى “مؤشر التنمية البشرية” من أصل 189 حسب تصنيف 2018 (مؤشر تركيبي يعتمد على ثلاثة مؤشرات: مستوى الصحة (أمد الحياة) ومستوى التعليم (نسبة تعلم الكبار أكثر من 15 سنة، نسبة تعلم الصغار) ومستوى المعيشة (مستوى الدخل الفردي))، و المرتبة 81 على مستوى “مؤشر الفساد العالمي” حسب تقرير “منظمة الشفافية الدولية” لسنة 2017 من أصل180 دولة شملها التقرير( يتولى المؤشر تصنيف البلدان وفقا لمدركات انتشار الفساد في قطاعها العام استنادا إلى آراء الخبراء و المسؤولين في مجال الأعمــــال، وذلك حسب مقياس يتراوح بين 0 و 100 نقطة، حيث تمثل النقطة 0 البلدان الأكثر فسادا في حين تمثل النقطـــــة 100 البلدان الأكثر نزاهة )، والمرتبة 97 عالميا على مستوى”مؤشر الازدهار العالمي” حسب تصنيف 2017 مقابل الرتبة 101 سنة 2016 (مؤشر يقيس ازدهار الدول وفقــا لتسعة معايير رئيسيــــة تتمثل أساسا في “الجودة الاقتصادية”، “بيئة الأعمال، الحكومة”،”الحرية الشخصية”،”رأسمال الاجتماعي”،”السلامة والأمن”،”التعليم”،”الصحة”و”البيئة الطبيعية”).
ودون الخوض في مدى “جدية” و”علمية” الأرقام التي ترد في تقارير المنظمات الدولية حول عدد من البلدان ومن ضمنها المغرب، فهي أرقام لا يمكن تجاوزها أو نكرانها أو”الطعن” في مصداقيتها، وحتى وإن لم تكن عاكسة للواقع بشكل دقيق “إيجابا” أو “سلبا” ، فهي تعبر بشكل أو بآخر عن محدودية إن لم نقل “فشل ذريع” لمختلف المخططات والبرامج التنموية التي بلورتها الحكومات المتعاقبة في قطاعات حيوية كالتعليم و الصحة و التشغيل و السكن والشباب ..، والتي أنتجت في مجملها مفردات “الاحتجاج” و”الحراك” و”البؤس” و”الانتحار حرقا” و”الموت غرقا” وأججت الرغبة الجامحة في الهجرة سرا و الهروب بحثا عن “كرامة مفقودة “…
– مداخل ممكنة للإصـــلاح :
لا نستغرب أن الخطب الملكية الأخيرة ( خطاب العرش ، خطاب ثورة الملك و الشعب ، خطاب افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان بمجلسيه) جاءت “اجتماعية” بامتياز ترددت فيها الدعــــوة إلى التفكير في بلورة مشروع “نموذج تنموي جديد” قادر على التخفيف من حدة الخصاص الاجتماعي والحد من التفاوتات السوسيومجالية و تحقيق شروط العدالة الاجتماعية والمجالية ومواكبة مختلف المتغيرات الوطنية و الإقليمية و الدولية، وفي ذلك اعتراف رسمي أن البرامج والمخططات التنموية المعتمدة -التي لم تصل إلى مستوى “النموذج التنموي” – أصبحت متجاوزة ولم تعد لها القدرة على الاستجابة لمختلف حاجيات المواطنين و المواطنات، وهذا “النموذج” يقتضي :
-أولا: تقييم البرامج والمخططات القطاعية السابقة سواء التي انتهت الفترة الزمنية المخصصة لها، أو التي لا زالت جارية التنفيذ، حتى يتسنى تجاوز ما شابها من صعوبات ومعوقات و من نجاحات وإخفاقات في المشروع المرتقب.
– ثانيا: تشخيص دقيق للوضع الراهن لمعرفة حجم الخصاص والتفاوتات السوسيومجالية وطنيا وجهويا ومحليا.
– ثالثا: تقييم نتائج “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” في صيغتها الحالية بتعزيز مكتسباتها و تصحيح بعض اختلالاتها، قبل الشروع في إطلاق مرحلة ثالثة من المبادرة ببرامج ومبادرات جديدة مدرة للدخل ولفرص الشغل، تستهدف الارتقاء بالرأسمال البشري للأجيال الصاعدة، مع التركيز على دعم الشرائج الاجتماعية في وضعية صعبة خاصة بالعالم القروي.
– رابعا: أن تكون ”المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” في صيغتها الثالثة جزءا لا يتجزأ من المشروع التنموي الجديد، للحد من التشتت و التنافر الذي تخلل البرامج التنموية السابقة.
– خامسا : الحرص على “مأسسة الحــــوار الاجتماعي ” لما له من أدوار في إيجاد الحلول الممكنـــة للمشاكل الاجتماعية العالقــة، وفي بناء أجواء الثقة بين الحكومة والنقابات و المواطنين .
وارتباطا بموضوع اللجنة التي أشار إليها جلالة الملك في خطابــه الأخير بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان، والتي ستسند لها مهمة تجميع المساهمات وترتيبها وهيكلتها وبلورة خلاصاتها في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج، على أن ترفع إلى جلالته مشروع النموذج التنموي الجديد”، فقد كثــر الحديث في الآونة الأخيرة عن النماذج التنموية الناجحة عبر العالم وأي نموذج منها أقرب إلى الواقـــــــــع المغربي، ويمكن القول في هذا الصـدد أنه من الضروري الانفتاح على مختلف التجارب التنموية خاصة تلك المنتمية لبلدان الجنوب ليس من أجل إسقاطها “ميكانيكيا” على المشروع المرتقب، ولكن من أجل الاستئناس بها واستثمار بعض معطياتها لإثراء التصور العام للمشروع ككل، على أن تكون “الرؤية الإصلاحية” مبنية من الداخل وفق الموارد والإمكانات المتاحة والمشاكل والإكراهات القائمة، و إسهاما في إغناء النقاش، يمكن وضع لبنات هذا المشروع وفق المداخل التالية :
1-مدخل التربية والتكوين : يعد التعليم (عام، مهني، تقني) حجر الزاوية في الإصلاح المرتقب، فالتعليم الفعال و الناجع المتفتح على طرق التدريس العصرية والبيداغوجيات الحديثة يشكل مفتاحا أساسيا للتنمية الشاملة ودعامة قوية للدفع بعجلة الاقتصاد الذي لابد له من موارد بشرية خبيرة ومؤهلة قادرة على التفكير والخلق والتجديد و الابتكار، مع تدعيم لمختلف البرامج والمبادرات الرامية إلـى دعم برامج التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي، من قبيل برنامج “تيسير” للدعم المالي للتمدرس، والتعليم الأولي، والنقل المدرسي، والمطاعم المدرسية والداخليات، من أجل التخفيف من التكاليف التي تتحملها الأسر، ودعمها في سبيل مواصلة أبنائها للدراسة والتكوين، دون إغفال برامج محو الأمية التي لابد أن تحاط بما يلزم من الدعم والاهتمام على غرار التعليم الأولي (برنامج محو الأمية بالمساجد نموذجا)، والحرص على إعادة النظر في المناهج والبرامج و الأطر المرجعية المعتمدة وكذا في مختلف الشعب و التخصصات القائمة لجعلها تنسجم وحاجيات المقاولات والقطاع العام، دون إغفال إعادة الاعتبار للمدرس(ة) ماديا و معنويا باعتباره الآلية المحركة لعجلة الإصــلاح، والتعجيل بإيجاد حلول و اقعية و منصفة للتوظيف بالتعاقد…
2-مدخل التشغيل : من بين المعضلات الاجتماعية التي يعاني منها المغرب ارتفاع نسب البطالة وسط صفوف شرائح واسعة من الشباب خريجي الجامعات والمدارس العليا و مؤسسات التكوين المهني، مما يقوي أحاسيس الإحباط واليأس ويحرك الرغبة في الهجرة والهروب خارج الوطن، و ” لا يمكن توفير فرص الشغل أو إيجاد منظومة اجتماعية عصرية و لائقة، إلا بإحداث نقلة نوعية في مجال الاستثمار ودعم القطاع الإنتاجي الوطني” كما ورد في خطاب العرش الأخير، وتحقيقا لهذه الغاية لا مناص من إنجاح ثلاثــــــــة أوراش كبرى أشار إليها جلالة الملك في نفس الخطاب، ويتعلق أولها بإصدار “ميثاق اللاتمركز الإداري” بشكل يتيــح للمسؤولين والفاعلين المحليين اتخــاد القرارات وتنفيذ برامج التنمية الاقتصاديـــة و الاجتماعية، وثانيها بالتعجيل بإخراج “الميثاق الجديد للاستثمار” و”تفعيل إصلاح المراكز الجهوية للاستثمــار” و تمكينها من الصلاحيات للقيام بالمهام المنوطة بها، وثالثها اعتماد نصـــوص قانونية مرنة قادرة على “تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية” ذات الصلة بالاستثمار، ولا شك أن اللقاء الوطني المرتقب نهاية السنة الجارية حول التشغيل و التكويــــن من شأنه أن يبلــور عدة قرارات عمليــة وحلول حديثـة وإطلاق مبادرات كفيلة بامتصاص البطالة وفتح أبواب الأمل أمام شريحة و اسعة من الشباب خاصة حاملي الشواهد العليا .
3-مدخل الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية: إعادة الاعتبار لقطاع الصحة يمر أولا عبر سد الخصاص على مستوى الموارد البشرية وتقريب الخدمات الصحية من المواطنين والمواطنات من خلال تحسين وضعية المؤسسات الاستشفائية القائمة على مستوى البنيات و الاستقبالات و الخدمات والاعتناء بأقسام المستعجلات وتزويدها بما يكفي من الموارد البشرية، والتفكير في بناء مستشفى جامعي بمواصفات دولية في كل جهة تدعيما لصحة القرب وتحقيقا للعدالة المجالية في المجال الصحي، دون إغفال الاعتناء بالعالم القروي الذي يعاني الأمرين على المستوى الصحي، فمن غير المعقول أن يقطع مواطن آلاف الكيلومترات من أجل زيارة مستشفى جامعي بالرباط أو الدارالبيضاء أو مراكش، أما على مستوى الرعاية الاجتماعية، فلابد من إعادة النظر في نظام التغطية الصحية (راميد) وتصحيح ما يواجهه من اختلالات مالية وإدارية في إطار رؤية إصلاحية شمولية للمنظومة الصحية ككل، بالإضافة إلى تفعيل مبادرة “السجل الاجتماعي الموحد” قصد الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي عبر اعتماد معايير دقيقة وموضوعية، وباستعمال التكنولوجيات الحديثة، مع إيــلاء عناية خاصة لدور العجزة و الأطفال المتخلى عنهم في إطار مقاربة تشاركية مع الجمعيات التي تنشط في المجـــال.
4-مدخل الطفولة والشباب والرياضة : في ظل حالة اليأس والإحباط وانسداد الأفق التي تعيشها فئات من المجتمع خاصة الشباب، أصبح مستعجلا الاهتمام بقضايا الطفولة والشباب وجعلها في صلب المخططات التنموية من خلال الرهان على الأدوار التي يمكن أن تلعبها دور الشباب والرياضة وملاعب القرب والمسارح ومراكز التأهيل المهني والرياضة المدرسية، في صقل مواهب وقدرات الأطفال والشباب وإبعادهم من كل أشكال الجريمة والانحراف، والإسهام في تأطيرهم تربويا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وهذا من شأنه أن يقوي لديهم الإحساس بالمواطنة و الانتماء إلى الوطن، وهذا المدخل لا يمكن فصله عن مدخل التربية و التكوين ومدخل التشغيل .
5-مدخل الأمن و القضاء: الأمن والقضـــاء وجهان لعملة واحدة، وهما القناة الوحيدة لتحقيق العدل والإنصاف و المساواة أمام القانون و تدعيم الحقوق و الحريات و محاربة الفســـاد والجريمة بمختلف أنواعها وتجلياتها، فكلما تحقق الأمن وبرز القضاء كسلطة مستقلة وعادلة ومنصفة، كلما تقوت الثقة في المؤسسات و القوانين، وكلما تنوعت فرص جذب الاستثمار الأجنبي،
6-مدخل السياسة وحقوق الإنسان: تأزم الأوضاع الاجتماعية هو مرآة عاكسة لواقع سياسي منحط أصبحت فيه الممارسة السياسية مقترنة بالفساد وطريقا مرنا أمام الوصوليين و الانتهازيين للارتقاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما كرس ويكرس ثقافة العزوف عن السياسة و الانتخابات …، وطريق الإصلاح يمر قطعا عبر آلية الأحزاب السياسية التي لابد لها أن تقطع مع واقع “الدكاكين السياسية” وتجود ممارستها الديمقراطية الداخلية وتعطي الفرصـــة للكفاءات والخبرات المشهود لها بالنزاهة والاستقامة والقدرة على التفكير والخلق والابتكار وإيجاد الحلول الممكنة لكل المشكلات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، فلا تصلح السياسة و لا تستقيم الممارسة الديمقراطية، إلا بأحزاب “مواطنة” تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار،وتضطلع بمهامها السياسية و المجتمعية في تأطير المواطنين وجعلهم يثقون في السياسة بل ويقبلون على ممارستها، أما الشــق “الحقوقي” فلا ينكر منكر أن المغرب قطع أشواطا لا يستهان بها في سبيل تعزيز ثقافة حقوق الإنسان، سواء على المستوى التشريعي أو على المستوى المؤسساتي، لكـــن لابد من صون المكتسبات و تشريــــع ما يلزم من قوانين قادرة علــــى تقوية حقوق الإنســــان و حمايتهــــا ، ومن شأن ذلك أن يــدعم “التنميـــة السياسية ” ويحسن من صورة المغرب على المستوى الدولي .
7-مدخل المحافظة على البيئة وحماية التراث: لم تعد قضايا التنمية مرتبطة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية و البشرية، بل امتد نطاقها لترتبط بالبيئــــــة التي سارت هاجســـا يؤرق الدول و الحكومات في ظل التغيرات المناخية المقلقة و الضغط البشري و الاقتصادي على الموارد الطبيعية (ماء، تربة، غابة، معادن، ثروات سمكية..) التي بدونهــا لا يمكن خلق الثروة و إدراك التنمية البشريـــة، وذلك في إطار رؤيــة شاملة للتنمية تتـــأسس على الأبعاد الاقتصادية و الاجتماعية و البشرية والبيئية (التنمية المستدامة)، لذلك لابد أن تحضر القضية البيئيــة في المشروع التنموي المرتقب من خــــلال الحرص على الموارد الطبيعية وتثمينهــا و اتخــاد جميع الإجراءات والتدابير الكفيلـــة بصيانتها و حمايتها خدمة للأجيال الحالية و ضمانا و صونا لحاجيات الأجيال القادمة، ونفس الاهتمام لا بد أن يحضى به التراث بشقيه “المادي” و “اللامادي” الذي يشكل حفظا للذاكرة الجماعية و صونا للهوية الوطنية، وهذا يتطلب وضع القضية التراثية في صلب المشاريع والمخططات التنموية، كآليــــة ينبغي استثمارها لخلق التـــــــروة وفرص الشغل و تعزيز التنمية الجهويــة .
8-مدخل النزاهة و محاربة الفساد: تحقيق النزاهة و الشفافية يشكل ضمانة أساسية للإصلاح المرتقب، عبر إتاحة المعلومة ووضعها تحت تصرف الجمهور وتفعيل مختلف مؤسسات وهيئات الحكامة والمحافظة على المال العام كالمجلس الأعلى للحسابات ومجلس المنافسة و الهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة، وهذه المؤسسات لابد وأن تضطلع بمهامها واختصاصاتها الدستورية ومسؤولياتها الوطنية في تحقيق شروط النزاهة و الشفافية ومحاربة كل أشكال استغلال النفوذ ونهب المال العام، وهذا سيساعد على تجويد مناخ المال والأعمــال وجذب الاستثمارات الأجنبية وتحفيز الاستثمارات الوطنية، وبالتالي تحسين صورة المغرب على مستوى بعض المؤشرات الدولية ومنها على الخصور “مؤشر مدركات الفساد” و” مؤشر الازدهار العالمي”،كما أن الانخراط الفعلي والصريح في سياسة مكافحة الفساد بكل تعبيراته من شأنه أن يطهر الحياة السياسية من الفاسدين والوصوليين والانتهازيين الذين يجرون خلف الكراسي والمناصب على حساب مصالح الوطن و المواطنين وإعادة ثقة المواطن في السياسة والأحزاب السياسية والانتخابات والديمقراطية وغيرها وتقوية الإحساس بالمواطنة والانتماء إلى الوطن، فضلا عن ما لذلك من انعكاسات إيجابيـــة على “الناتج الداخلي الخام” و “الدخل الفردي” .
المداخل المشار إليها سلفا، تتقاطع فيها المؤشرات الاقتصادية (الناتج الداخلي، الخام، نوع وبنية الاقتصاد ..) والاجتماعية (نسبة الفقر، نسبة الأمية، المساواة بين الجنسين، التأطير الطبي ..) والسياسية (تطور الديمقراطية، مستوى حقوق الانسان والحريات..) والتعليمية (نسبة تعليم الكبار(15 سنة فأكثر)، نسبة التمدرس(أقل من 15 سنة) ..) والبيئيــة (التنمية المستدامة، ضرورة مراعاة البعد البيئي في برامج ومخططات التنمية ..) …إلخ، لكن يربط بينها “خيطا رفيعا ” ويتعلق الأمر بمحاربة الفســاد وتفعيل آليات المحاسبة والعقــاب، و من الضروري استحضار هذه المؤشرات في الرؤى و التصورات التي ستتحكم في مشروع “النموذج التنموي” المرتقب، من أجل إقلاع تنمــــوي حقيقي وجدي قادر على تجاوز مختلف المعضلات التي يعاني منها المغرب على جميـــع المستويات .
خلاصة القول وتأسيسا على ماسبق، لابد من التأكيد أن مشروع “النموذج التنموي المرتقب” هو مشروع يعني جميع المغاربة ويرتبط بحاضرهم و مستقبلهم، لذلك لابد أن يفتح بشأنه نقاش وطني (حكومة، أحزاب سياسية،برلمان،جمعيات المجتمع المدني، جامعات، خبراء…)، وأن تتحلى”اللجنة” المكلفة بجمع الإسهامات في أفق بلورة تصور شمولي للمشروع، أن تتحلى بالحس الوطني والكفاءة والمهنية والقدرة على الإنصات والانفتاح على كل المقاربات والرؤى التي ستعرض عليها بدون محاباة أو إقصاء، وهذا لا يمنع في إطار التجارب المقارنة من الاستئناس ببعض التجارب التنموية الناجحة عبر العالم (النموذج الياباني، الصيني، الكوري الجنوبي، التركي، الهندي، البرازيلي…إلخ)، وإذا كانت مداخل الإصلاح متعددة المسالك و متشعبة الروافد، فلابد أن يكون المشروع عاكسا لرؤية شاملة للتنمية متعددة الأبعاد (اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، بشرية،سياسية، أمنية، حقوقية، رياضية،بيئية) تجعل من الإنسان محورها ومنطلقها وغايتها، مع إعطاء الأولوية للثالوث المقدس القادر على تحسين الوضعية على مستوى “مؤشر التنمية البشرية”، ويتعلق الأمر هنا بالمستوى الصحي (تجويد الخدمات الصحية وجعلها متاحة لجميع المغاربة) والمستوى التعليمي(التعليم الفعال والناجع مفتاح التنمية الشاملة، وبه تنتج الثروة وتبنى المواطنة وتتأسس القيم ويتحقق الأمن ويسمو القضاء وتستقيم الإدارة …) والمستوى المعيشي (اتخاد مختلف الاجراءات والتدابير القادرة على تحسين الدخل الفردي)، دون إغفال تجميع كل التشريعات والمبادرات التنموية المعتمدة أو التي سيتم اعتمادها لاحقا (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، القانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين، الرؤية الاستراتيجية للإصلاح، الخدمة العسكرية، برنامج تيسير للدعم المدرسي، صندوق التكافل العائلي …) وإدماجها في التصور العام للمشروع التنموي المرتقب، مع الحرص على تفعيل مختلف آليات و مؤسسات الحكامة والنزاهة ومحاربة الفساد (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المجلس الأعلى للحسابات، مجلس المنافسة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، المجلس الأعلى للأمن ..) في تنزيل وتتبع مسارات تطبيق المشروع ومحاربة الفساد وتعقب المفسدين، وهذا لن يتحقق إلا بتطبيق سليم لمبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” الذي يجب أن يكون كالموت لا يستثني أحدا، فكفى هدرا لزمن الإصلاح وكفى عبثا بمصالح الوطن والمواطنين، فهناك أمم تصحو و أخرى تنمو بين ظهرانينا .. فالحذر من أزمة عميقة تبدو اليوم كجمر حارق تحت رماد ساكن قابل للتوهج والاحتراق .. فكفى عبثا .. كفى فسادا ..
-كاتب رأي، أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك الثأهيلي بالمحمدية.