لم تكد تخمد نيران “قبلة” مكناس وما أثارته من ردود فعل متباينة في مختلف الأوساط التربوية والسياسية والاجتماعية ، حتى برزت “عصا” ورززات التي انتشر صداها في المواقع الاجتماعية كما تنتشر النيران في الهشيم ، ورغـــم اختلاف الزمكان والظروف والحيثيات والملابسات ، فإن الواقعتين ، تقاطعتا معا في الكشف عن مساحيق التجميـل التي تخفي نذوب وعيوب وتجاعيد المدرسة العموميـة ، التي أضحت منذ أكثــر من أي وقت مضـى في حاجـة ماسـة إلى إعـادة الإعتبــار داخل المجتمع كفضاءات لترسيخ قيم المحبة والاحترام والمسؤولية والسلام وغرس المواطنة الحقة ابتداء ، وبناء الإنســـــــــان المواطن انتهــاء ، بعدما ســارت ملاذا آمنــا للكسالى والمنحطين الأقرب إلى المجرمين منـه إلى المتعلمين ، وهاتين الواقعتين أثارتا الكثيـر من الجدل التربوي في كل الأوساط والمنتديـات ، ممــا يسمــح بإعادة تشريح الواقعتيـن من خلال قراءة ظروفهما وملابساتهما وأطرافهما من زوايا مجتمعية وتربويـة وقانونيـــة أولا ، ثـــم محاولـة مقاربتهما من الناحية القانونيـة كسلوكات ارتقت إلى مستوى الفعل الجرمي .
أولا : قبلة مكناس وعصا ورززات : أية قراءات ؟
باستقراء ظروف وملابسات الواقعتين معا ، يمكن إبداء الملاحظات التاليـة :
– بالنسبة لواقعة مكناس : تلميذان يتبادلان القبل في فصل دراسي ، وهو سلوك مخل بالآداب والاحترام يعكس انحطاطا في التربية ورداءة في الأخـلاق ، ومسا صارخا بحرمة وقدسية مؤسسة تعليمية لها مكانة وقيمة اعتبارية في المجتمعات الراقية .
– في واقعة ورززات : وثق الفيديو لحادث اعتداء على مدرس تجاوز ربيعه الخامــس من طرف متعلم منحط ومتهور ، بل وتمادي هذا الأخير في الضرب والعنف في حق المدرس الذي ليس فقط لم يدافع عن نفسه من خطر مباشر، بل لم يبارح مكانه على مستوى المكتب واستسلم للضرب والإهانة ، وباقي المتعلمين على قلتهم لعبوا دور المتفرج ، بدل الدفاع عن مدرسهم وصد المتعلم المنحط والمتهور ، بل وقام أحدهم بتصوير واقعة الاعتــداء المدان أخلاقيا وقانونيا .
– واقعة مكناس ، صدر قرار في حق المتعلمين من قبل المجلس المختص ، وسواء كان القرار الصادر صائبا أو مجانبا للصواب أو مبالغا فيه ، فلابد من الإشــارة إلى أن القرارات الصادرة عن المجالس في هكذا حالات ، لابد وأن تتسم بطابع الحجية والقوة القانونيـة ، ولا يمكن أن تكون القرارات موضوع مراجعة أو إملاءات أو توجيهات من أية جهة من الجهات ، لكن ما حدث ،أنه وبعد اتخاذ قرار الطرد في حق المتعلمة ، دخلت المديرية المعنية على الخط وطالبت بإرجاعها واتخاد عقوبات تربوية أخرى بديلة ، وهذا يعد مس بقدسية القرار المتخذ بل وبقدسية القرارات الصادرة عن مختلف المجالس التربوية ،وعلى المستوى التربوي ، لابد من الإشارة بأن العقوبة الصادرة في حق المتعلمة كانت صارمة ، وكان بالإمكــان اتخاذ قرار التوقيف المؤقت للفاعلين معا بدون تمييز و نقلهما إلى مؤسسة أخرى حفاظا على سمعة المؤسسة ، ومــع ذلك كان من الضروري احترام قرار المجلس ، وحتى إذا ما تدخلت المديرية على الخط ، كان من المفروض أن يكون ذلك من باب الإلتمــاس وليس من باب الإملاء والأمر، لأن الطاقم الإداري والتربوي هو من يتحمل وزر المعضلات والانحرافات التي تعرفها المؤسسة ، وبالتالي فهو الأقرب والأذرى بنوعية الجزاء الذي تلزمه كل حــالة أو انحراف أو عدوان أو عنف .
– واقعة ورززات ما كان لها أن تتخد هذا البعد الداخلي والخارجي لولا شريط الفيديو الذي يوثق لواقعة الاعتـــداء الذي صور من طرف أحد المتعلمين الحاضرين للواقعة ، ولولا هذا المقطـــع لما تم العلم بالقضية أصلا ، ولما أخدت هذا التعاطف المنقطع النظير مع الأستاذ المعنـــف ، الذي لم يبلغ حسب المعلومات المتداولة عن واقعة الاعتداء الذي تعــرض له ، ليكتفي بسياسة الهدنة أثناء الضرب وبعده ، وهذه الواقعة المؤسفة المدانة أخلاقيا وإنسانيا وقانونيا ، تعكس بكل أسف وحسرة الوضعية المزرية التي آل إليها المدرس في جميع المستويات .
– الواقعتان معا ، أثارتا اضطرابا اجتماعيا وموجة من السخط والإدانة وفقدان الثقة في المدرسة العمومية، وقد كــان من المفروض أن تتدخل النيابة العامة على الخط باعتبارها المدافع عن الحق العام ، لتأمر الضابطة القضائية المختصة بفتح بحث معمق في النازلتين ، فالقاعدة القانونيــة كقاعدة اجتماعية وسلوكية ومجردة وعامة ، لم توضع إلا للضبط الاجتماعي وزجـر كل الأفعال والسلوكات الاجرامية بمختلف مستوياتها مهما كان مسرح الجريمة أو نوعية مقترفيها ،
– الواقعتان أيضا، تعكســان ما يعرفه المجتمع من انحلال قيمي وأخلاقي ، وقبله تعبران بكل أسف عن فشل الأسرة المغربية أو على الأقل جانب من الأسر المغربية في تحمل مسؤولياتها التربوية حيال أبنائها ، ومن خلالها فشل باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية في أدوارها التربوية والتأطيرية من مؤسسات عمومية وأحزاب سياسية وجمعيات المجتمع المدني وغيرها ، وهذا الانحطاط الأخلاقي والتربوي يصل إلى المؤسسات التعليمية ويتمظهر في شكل سلوكات لا أخلاقية وانحرافات جرمية (ضرب وجرح ، عنف ، مخدرات ، سكر … إلخ) آخدة في التنامي في ظل غياب الرادع التربوي والقانوني .
ثانيا : أية مقاربة قانونيـة للواقعتين ؟
بعيدا عن الجانب البيداغوجي أو التربوي أو العاطفي ، يلاحظ أن واقعتي مكنــاس و ورززات تشكلان أفعالا إجرامية معاقب عليها بموجب مقتضيات النص الجنائي ، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي :
– واقعة مكناس : الأمر يتعلق بفعل جرمي معاقب عليه قانونا ويدخل في نطاق الجرائم الماسة بالأخلاق وتحديدا في جريمة الإخلال العلني بالحيا بمحضر زملائهما والمدرس الذي ضبطهما،وهذا الفعل أثــار ردود فعل قويـة في جميــع الأوساط ، ليس فقط لأنه مـدان أخلاقا وقانونـا ، بل لأنــه وقـــع في مؤسســة تعليمية لها حرمة ووضع اعتباري داخل المجتمع ، وبالتالي فإن بعض الأصوات التي تعاطفت مع طرفي القضية ونادت بإرجاعهما وزجرهما تربويا ، لم تقــدر درجة الفعل المرتكب الذي دخل في خانة الفعل الجرمي المدان قانونا ودينيا وأخلاقيا ، ولم تقدر انعكاس مثل هكذا سلــوكات على سمعة المدرسة العمومية وقيمتها المجتمعية ، لذلك وحتى إذا لم يتم تفعيل القانون في النازلة ، فقد كان على الأقل لا بد من التعامل معها بكل ما يلزم من حـــزم وصرامة من خلال نقل الفاعلين إلى مؤسسة أخرى كعقاب إداري وتربـــــوي صونا لحرمة المؤسسة التي يدرسان بها من جهة ،ولوضع حد لكل سلــوك طائش مشابه في مستقبل الأيــام من جهة أخـــرى .
– واقعة ورززات : ما اقترفه المتعلم المنحط يدخل بـــدوره في صلب أفعال جرمية معاقب عليها قانونا ، ويتعلق الأمر بالإهانة في حق موظف عمومــي أثناء مزاولة مهامـه ، الضرب والجرح العمديين ، عرقلـة سير حصة دراسية ، المساس بحرمة وسمعة مؤسسة تعليمية ، أما بالنسبـــة لبقية المتعلمين ، يلاحظ أنهم امتنعوا عن القيام بفعل أوجبـه القانون ، ويتعلق الأمر بعدم تقديم المساعدة لشخـص في خطــر، ولذلك فهم يتحملـــون ليس فقط المسؤولية الأخلاقية بل والمسؤولية الجنائيــة أيضـــا .
إذن وتأسيسا على ما سبق، فسواء تعلق الأمر بواقعة مكناس أو بواقعة ورززات ، فكلاهما تجاوزا حدود السلوك المدرسي الذي يمكن أن يعالج وفق مقاربة تربوية ، ووصلا إلى حد الفعل الجرمي الذي لا يمكن معاجلته إلا بتبني المقاربة القانونية الجنائية ، ففي الحالة الأولى تم المســاس بحرمة المؤسسة التربوية بسلوك لا أخلاقي منحط ، والحالة الثانية ، تم المســاس بحرمة رجل تعليم بل وانتهاك هذه الحرمة بالإهانة والإيذاء العمدي ، وكلاهما مسا بقدسية ومكانة المدرسة العمومية التي فقدت أدوارها ومكانتها الاعتبارية داخل المجتمــع ، ومثل هكذا حالات أو انحرافات ، فهي تزيد الطين بلة وتكــرس أزمة هذه المدرسة ، لذلك وفي ظل السلوكات العدوانية التي أضحت تقترف داخل فضاءات المؤسسات التعليمية والتي تطال الإداريين والمدرسين على حد ســــواء ، أصبحت الحاجة جد ملحة لتطويق هذه السلوكات حتى لا تتحول إلى ظاهرة عابرة لكل المؤسسات التعليمية ، من خلال تبني مقاربـة جديدة تجمــع بين الأبعاد التربوية والأمنية والقانونية يمكن إبراز مظاهرها الكبرى على النحو التالي :
– لا بد من إعادة النظر في التشريع المدرسي ،خصوصا بعض المذكرات التي كبلت أيادي المدرسين والإدريين وشجعت بعض المتعلمين المنحطين على التمادي في التهور الذي يصل حد العدوان .
– إعطاء المؤسسات التعليمية صلاحيات واسعة في زجر المتهورين من المتعلمين .
– إعادة النظر في النظام الأساسي لموظفي التربية الوطنية خصوصا في النقط المتعلقة بالحماية الإدارية والقانونية الممنوحة للمدرسين والإداريين أثناء مزاولة مهامهم .
– وضع تشريع جنائي مدرسي تحدد من خلاله أنواع الجرائم المدرسية والجزاءات المرتبطة بها حماية للمدرس والإداري وصونا لحرمة المؤسسات التعليمية ، مــع ضرورة التفكير في آليــة لتفعيل الأمن المدرسي ومنحه إمكانية التدخل داخل المؤسسات التعليمية على غرار الأمن الجامعي .
– متابعة أي متعلم اقترف أفعالا جرمية وفق التشريع الجنائي المدرسي .
– القيام بمقاربة استباقية لتعريف المتعلمين بالتشريع المدرسي والنظام الداخلي للمؤسسات ، ووضعهم عند ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات والتزامات .
– الحرص على النظام والتعامل الصارم مع كل سلوك مخالف للنظام الداخلي للمؤسسات ، تحت طائلة اتخاذ العقوبات الإداريــة اللازمة .
– تفعيل الأندية المدرسية وتحفيز المتعلمين للانخراط فيها ، وتمكين هذه الأندية من الدعم اللازم .
– تحفيز المتعلمين المتميزين .
– الإعـــلان عن أسماء المتعلمين المخلين بقواعد الانضباط .
– مسك لوائح سوداء عن المتعلمين المنحطين وغير المنضبطين وكذا بطاقات تقنية عن كل واحد منهم ، وتطعيمها بكل ما ينسب إليهم من مخالفات وأفعال لا تربوية ، يمكن استثمار معطياتها عند الضرورة .
– تعزيز أدوار المجالس التأديبية وتفعيل قــراراتها .
– تفعيل الأنظمة الداخلية وعدم التسامح مع المخلين بقواعدها (لباس غير محترم ، وزرة ، قبعات ، نظارات شمسية ، نوع الحلاقة ، هاتف نقال ، تغيبات غير مبررة…) .
– فرض لباس موحد على جميع المتعلمين ، وهذه أولى خطوات فرض النظــام والانضباط .
-إعادة الاعتبار للمدرس وتمكينه من أجر محترم وتعويضات محفزة ومن ظروف عمل لائقــــة (تعويضات عن التصحيح والحراسة ، تعويضات عن المخاطر …)، لأن الإصلاح لا يمكن أن يبنى بمدرس غير محفز ساخط على الوضعية.
– التخفيف من حدة اكتضاض الأقســـام ، لأن الاكتضاض يولد الشغب والفوضى والتهور.
– إعادة النظر في البرامج الدراسية من خلال حذف بعض الوحدات الدراسية المتجاوزة التي تكرس الملل والرتابة ، والتقليص من الكم ،لمنح المتعلمين فرصة لإبراز الموهبة والخلق والإبداع سواء على مستوى الأندية المدرسية أو خارج المؤسسات التعليمية .
– التفكير في صيغ تربوية بديلة بالنسبة لبعض المتعلمين المنحطين دراسيا وأخلاقيا ، وتوجـيــهـم نحو التكوين المهنـي أو فصلهم من الدراسـة ، لأنهم يساهمـون في الرداءة ويكرسون الانحطاط .
– انفتاح العملية التعليمية التعلمية على تكنولوجيا الإعلام والإتصال للحد من الرتابة التي تؤدي إلى الشغب والعنف .
– اعتبار المدرس شريكا أساسيا في أي كل عملية إصلاحية ترمي إلى تجويد العملية التعليمية التعلمية .
أخيرا وليس آخرا ، لابد من الإشارة إلى أن المؤسسات التعليمية لها حرمتها ، ولا يمكن التساهل مع كل سلوك متهور ومنحط من شأنه المساس بها وبسمعتها وقيمتها داخل المجتمع ، ولا بد أيضا من رد الاعتبار للمدرس الذي يعد ليس فقــط أساس وأس العملية التعليمية التعلميـــــــة ،بـل وضمان نجاح أي مشروع إصلاحي وذاك الشخــص الذي يصنــع الإنسان ، والذي قيل فيـــه يومــا ” كـــاد المعلم أن يكـــــــون رســـــــولا ” .