الرئيسية / بديل ثقافي / كتاب (المسهب في أسرار المغرب .. أو المغاربة كما هم) للدكتور صالح شكاك

كتاب (المسهب في أسرار المغرب .. أو المغاربة كما هم) للدكتور صالح شكاك

إن المتأمل في الرصيد المصدري والكتبي للمغرب سيلاحظ غياب المؤلفات التي تخصص للخصوصية المغربية ما تستحق من وقفات وتأملات. فباستثناء كتب التراجم والسير و كتب التاريخ، يلاحظ غياب عناوين تبسط للطرائف والمستملحات المغربية ركنا أو حيزا يستحق أن يكون اعتبارا. فهل يعود الأمر إلى غياب هذا النوع من التراث من ذاكرة المغاربة، وهو أمر مستحيل في هذا البلد الذي يتنفس المستملحات وينتجها باستمرار، أم مرد ذلك إلى كون المؤلفين المغاربة كانوا جديين فوق العادة فلم يلتفتوا إلى هذا النوع من الآثار التي تعبر عن الشخصية المغربية ومواقفها من الأحداث والتقلبات والوقائع، فاعتبروا الأمر مضيعة للوقت وهزلا لا يعتد به، أم دسوا ذلك فيما كتبوه بين السطور فاكتفوا تارة بالإشارة وبالتلميح وتارة مروا مرور الكرام؟.

هو واقع يحمل أكثر من دلالة ويدعو إلى التفكير الجدي. فلماذا لم يؤلفوا على غرار" العقد الفريد"  لابن عبد ربه، و"الأغاني" للأصفهاني، و"حدائق الأزاهر" لابن عاصم الأندلسي، و"المستطرف" للإبشيهي إلى غير ذلك من المؤلفات التي حاول أصحابها جمع المواقف الطريفة والأحداث الظريفة مما تصبو إليه النفس للمعرفة والاستمتاع الهادف في اللغة والموضوع ؟. ولا شك أن معظم المؤلفين المغاربة كانوا على علم بهذا النوع من المؤلفات، فقرأوها واستنبطوا منها واستشهدوا، إلا أنهم لم يؤلفوا على شاكلتها بالطريقة المغربية الصرفة ، فقد ظلت عقولهم فيما ألفوه في هذا النوع ذات مرجعية شرقية، اتخذوا من تراث الشرق العربي الإسلامي مثالا وهديا للاستشهاد به وتقديمه عربونا على المعرفة وحسن الاطلاع ومقياسا للحجة والدليل فيما سعوا إلى تثبيته أو نفيه. فحتى الحسن اليوسي في "المحاضرات"، وفي " زهرة الأكم في الأمثال و الحكم" وأبو العباس الجراوي في "الحماسة المغربية" وأبو مدين الفاسي في " مجموع الظرف وجامع الطرف" وغيرهم لم يشيروا للرصيد المغربي إلا لماما… ولا شك أن هذه العقدة هي التي دفعت في وقت متأخر عبد الله كنون إلى تأليف كتابه:"النبوغ المغربي" كرد على قيل في الشرق وليس كقناعة شخصية بهذا النقص.

وهذا الكتاب هو عبارة عن رحلة في ذاكرتي المكان والزمان، في تفاعل الإنسان المغربي مع محيطه، مع تقلبات الدهر ونكباته،بين الرفض والقبول والحياد، في الإقبال على الدنيا بالأريحية والتفاؤل أو بإعطائها الظهر وعدم الالتفات إلى غواياتها…بين عويل وهمس وصمت مكنون، بين تصريح وتلميح، وكشف بكافة أشكال التعبير المباحة والممنوعة، الظاهرة أو المقموعة،بين كل هذه الثنايا تبرز الأفكار والأسرار والقناعات وتتضارب الرؤى والاتجاهات والميولات…

مجتمع تراوحت فيه الأفكار بين الاندفاع والتراجع وتناقضت فيه ردود الأفعال بين الاستكانة والتهور، بين التقهقر والإقدام،وتعددت فيه المشارب والسلوكات والمسالك… بين السذاجة والذكاء، بين الصفاء والنفاق، بين الغدر والوفاء، بين الكرم واللؤم…مجتمع اصطاد لحظات عسيرة للفرح فيما كان ضحكه مؤجلا أو مخيفا مجهولا في تبعاته، مجتمع سكنه النغم والهم والحزن الدفين، مجتمع تقلب بين غياهب الجهل وعوالم العلم ،بين موائد الغنى و سراديب الفقر ،بين أنياب الأوبئة والمجاعات و العافية والكفاف والغنى والإسراف، وتعرض لشتى صروف الدهر من ظلم ذوي القربى و تعسف الحكام  وغضب الطبيعة…

تناقضات عكست طبيعة الإنسان،وعكست ذاكرة مجتمع مثقل بالتاريخ والتراث، مولع بالكلام،منبهر بالجغرافيا، مفعم بالنغم، مرتبط بالأمكنة، مسافر دوما في رحاب الكلمات والرموز…لذلك اكتسب خصوصياته التي انفرد بها عن باقي الشعوب و الأمم، واشترك مع شعوب العالم في الكثير من الأحاسيس والتعابير والمواقف ذات الصبغة الإنسانية.

في هذا المستطرف ما هو مقتبس من ذاكرة الناس سمعا أو رواية مباشرة أو بشكل غير مباشر، صنفناه في خانة التراث الشعبي، وما هو مقتطف من كتب ومقالات ومخطوطات إما بشكل مباشر بالعودة إلى الأصول أو بالاقتباس ممن سبق وأن اطلع على ما رمنا الإطلاع عليه إلا أن الظروف لم تسعف… ومن الحكايات التي اعتبرت في الكتاب تراثا شعبيا هي في الأصل نصوصا مدونة ومن المدون ما كان في الأصل تراثا شفويا قبل أن يجرفه المداد نحو الورق. وقد حاولنا فيه أن نغرف من  كل بحر جرعة وأن نجني من كل حقل زهرة وأتتنا هذا السفر بصور تختزل المشاهد وتقرب الخلاصات.

وقد وجد من العلماء والقضاة والمشايخ والأدباء ورجال الدولة…الكثير ممن خلدوا أسمائهم وطبعوا المغرب بطوابعهم التي لا تبلى، إلا أنهم لم ينالوا حظهم بعد في التعريف والإشهار.فما أحوجنا إلى أفلام وثائقية وسينمائية وبرامج تعليمية وثقافية وملتقيات وموائد وغيرها من أشكال التعبير والحفر…للتعريف بهؤلاء وبمنجزاتهم. ولا شك أننا سنصاب بخيبات الأمل إذا نحن نزلنا إلى الشارع وسألنا عن هذا الاسم أو ذاك من الأسماء الوازنة في تاريخ هذا البلد، على عكس إذا سألنا عن أجانب في الغناء أو الرياضة أو غيرها من الميادين التي اقتحم روادها المنازل والعقول فصارت رموزا وأمثلة، وصرنا الغرباء في الوطن. قد ننعث بالتخلف والرجعية إذا لم نعرف هذا أو ذاك من هؤلاء المشاهير والنجوم الذين لم يقدموا ولم يؤخروا في شيء، أما ما نعرفه نحن عن هؤلاء المغاربة وما نسعى إلى إظهاره عنهم فلن يجدي نفعا ولن يقدم أو يؤخر في نظر هؤلاء المبهورين بالأضواء والصخب…

فالمغرب الزاخر بعطاءاته وتنوعاته في كل شيء، في حاجة ملحة الآن ودون تأخير إلى البحث عن سبل إحياء هذا التراث والمحافظة عليه في زمن هذا التيار الكاسح والسيل الجارف للثقافات والقيم، فانظروا، فما أنتم فاعلون فيما تعيشون وما أنتم مقررون فيما تعرفون؟! وأما ما لا تعرفونه فبحر بدون ساحل ولا قعر، يحتاج إلى غواص طويل النفس وعاشق للكلمة الهادفة، يركب عقبات التأمل والنبش مع ما يتطلبه ذلك من قناعة وصبر وإقبال.

فما أحوجنا إلى من يخرج هذا التراث من عتماته، إلى من يحفر عن هذه الكنوز ولو بالأظافر وفي ليال باردات مظلمات…وينير طريق الظهور للقدماء حتى يتسع لهم في المجالس و بين الأجيال، وحتى يعرف الجميع أن هذا البلد له من الأسماء والأعمال ما يرفع رأسه شامخا وما يجعله يفتخر دون دونية أو شك، فالمغرب أرض يضم في مقابره رجال وأي رجال ونساء وأي نساء، إنهم المغاربة والمغربيات، إنهم الشهامة والكرم والإباء والعزة والقلم والحكم…من كانوا يكسرون الصخر تحت أقدامهم ويقولون كلمة حق في موطن الوجل ويرفعون راية العزة والإقدام متى عسعس ليل الظلم وانحطت القيم،المساعون إلى الخيرات و الإعمار…ولكن،إلى جانب هؤلاء العظماء، هناك الرعاديد والجبناء والمنافقون ورجال البغي والغدر والمكر والرذائل والساعون إلى خراب العقول والديار…وكانت لهؤلاء صولاتهم كذلك، فكان هذا التنوع الفريد من نوعه.

إن هذا التصنيف الذي وضعناه في هذا الكتاب لم يكن إلا اجتهادا فقط، فالكثير من النصوص متداخلة المعاني ومتعددة الأهداف والمقاصد، فالكثير منها يمكن أن يصنف في أكثر من باب، لذلك فالوارد في هذا المقام ليس نهائيا. كما أن عناوين الأبواب نفسها قد أتت فريدة في معناها أو متداخلة في مغزاها، بعدت بين المتقارب وقربت بين المتباعد و جمعت المتناقض فيما بينه. فأعرضنا ما قيل عن المغرب والمغاربة من أقوال وشهادات وعرجنا على أقلام الشجاعة وسيوف الإقدام وخصصنا للمتصوفة والأولياء حيزا ولم نغفل عطاء المغاربة في العلوم والمعارف كما وقفنا قليلا عند أشعار المغاربة وحكمهم وتطرقنا إلى مقاماته في التسيير وتدبير الأمور ولم تفتنا الفرصة للإحاطة ولو نسبيا ببعض المواقف الخاصة بعلاقات الرجال بالنساء ثم خصصنا حيزا لمنجزات الجبابرة و أشكال الفساد التي طبعت المجتمع المغربي في مسيرته التاريخية ،كل ذلك من مصادر مكتوبة وأخرى شفاهية متعددة الأغراض والأشكال والمقاصد وعلى طول الخارطة المغربية بتنوعها الجميل.

و مازالت الكثير من الذخائر في حاجة إلى من ينفض عنها غبار النسيان ويخرجها من سجن الظلام وزحف الرطوبة القاتلة للورق والمداد… فلم نستغل في هذا المقام إلا ما أمكن الوصول إليه وليس لموقف مسبق .ولا شك أن مثل هذه الانجازات تحتاج إلى فريق متكامل من الباحثين وإلى مؤسسات ترعى مثل هذه الأعمال وتستثمر فيها لما لها من مردودات مادية وانعكاسات معنوية كالصدقات الجاريات التي لا تقدر بثمن والتي لا يركب الصعب من أجلها إلا من يؤمن بها ويعمل على أن يكون من الذين نالهم نصيب منها يوم لا ينفع ما يظن أنه نافع، وهي من الغايات التي عزت في زماننا الذي طغت عليه الأضواء وتلاعبت بمشاعره الماديات.

 أما الوارد في هذا الكشكول أو المستطرف ،فهو بعبارة صريحة "تامغربيت"، هو محاولة موجهة للمغاربة أنفسهم ولغيرهم ليعرفوا ما لم يعرفوه، أو ليتذكروا ما قد نسوه، وهو كذلك مرآة شفافة، أردنا من ورائها، أن يعرف الآخرون من غير المغاربة الطابع المغربي الفريد من نوعه والنقي في أصله والمثمر في فرعه و الظليل في أيكه. فأنزلنا  المغاربة منازلهم  فمكناهم من المتن وأنزلنا المشارقة إلى الهوامش . وهو كما جاء على لسان محمد بن عسكر الشفشاوني في مقدمة تأليفه" دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر":" وإنما جعلته مختصا بمشايخ المغرب لكونه وطني ومغرس شبابي ومعطني ، ومن ذا الذي لا تهزه عصبية وطنه؟" ناهيك عن فضل أهل المغرب الظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة.

 فبلادي وإن جارت علي عزيزة وقومي وإن ظنوا بي كرام!

أيها المغاربة، أيتها المغربيات، دونكم  بعض إرثكم!

 أيها القراء: الذاكرة المغربية تخاطبكم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *