هناك من بيننا مواطنون محسوبون من مثقفي الأمة وضمائرها الحية، لا أعرف كيف تنتابهم بين الحين والآخر عقدة نقص غير مقبولة وغير مبرَّرة تجاه الأوروبيين عامةً، والغرب من الأطلسي والشمال من المتوسط بشكل أعم، وتجاه دولة فرنسا بصورة خاصة، ولذلك شاهدنا تشنجاتهم، وسمعنا لغطهم وضجيجهم وهم يتابعون الانتخابات الفرنسية في دورتيْها الأولى والثانية، حتى أن بعضهم كان “يحيض ويبيض” خوفاً على اليمين الفرنسي أكثر من اليمين ذاته، وغضباً وحسرةً على تحالفات اليسار التي كانوا يتوجّسون منها خيفةً، ويغمضون أعينهم وعقولهم حتى لا يرون اليسار منتصراً في آخر مطاف… بينما حقيقة الأمر أنما هي مسرحية هزلية وهزيلة شكّلتها تلك الاستحقاقات!!
في الواقع، ذكرني موقف ماكرون وهو يحل البرلمان ويدعو إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، ثم وهو يظهر تغاعله مع ما يجري بعد ذلك بالساحة السياسية هناك، ذكّرني بموقفه وهو يحضر بدوحة قطر قبل سنتين مباراة نصف نهاية كأس العالم التي جمعت الفريق الفرنسي بنظيره المغربي، بينما كان يضع في احد جيوبه أرنبا ابيضَ يوشك أن يخرجه امام أعين أمير قطر وأنفانتينو وفوزي لقجع كما يفعل الحُواة، وبينما كان أيضاً يقول لنفسه بكل المكر الفرنسي المعروف: “أنا عارف أننا سننتصر على المغرب، بعد أن عملتُ كل ما ينبغي عمله لتكريس ذلك الانتصار”… وكما لا نزال جميعاً نذكر ذلك، تلقى المنتخب المغربي وهو في أوج تألقه وتفوّقه على خصمه الفرنسي ضربات موجعة في الظهر، من لدن حكام العشب الأخضر وحكام “الفار”، جعلته يوقف صعوده ويجلس صاغراً على الأرض، وابتسامة ماكرون الصفراء الحربائية والباردة كالصقيع تشيّع أفرادَه إلى مستودع الملابس!!
نفس هذا الموقف بدا لي من جديد خصوصاً بمجرد إعلان نتائج الدورة الأولى وفوز اليمين الفرنسي ببعض المواقع ولكنها لم تكن كافية لحسم المعركة، ثم وهو يعود، أقصد اليمين المتطرف، إلى سُدة الواقع الفرنسي المطبوع بأعظم صور النفاق والمكر والخديعة، ليجد ماكرون نفسه مرة أخرى منتصراً بفضل تحركات زبانيته في الكواليس، رغم الاختلال الذي طال موازين القوى في خندقه الرئاسي، والذي جاء بالمسمّى “جان لوك ميلونشون” إلى المربع الذهبي ليصير الرقم الأقوى في معادلة فرنسا الراهنة، وهو الذي كان يُقيم الدنيا ولا يُقعدها فوق رأس ماكرون، طيلة السنتين الماضيتين من العهدة الثانية لهذا الأخير، حتى أنه صاح أمام الفرنسيين كافة، داعياً ماكرون إلى “الاستقالة إنقاذاً لكرامة فرنسا” كما قال، وهاهو الآن ينضم إليه في نفاق ظاهر وفاضح، وقد كان في وسعه أن يُشكّل مع اليمين قوةً غيرَ مسبوقةٍ من شأنها أن تقلب فرنسا رأسا على عقب… نهايته، قمة السفالة، وقمة الإسفاف!!
ونعود إلى مواطنينا المثقفين، الذين كانوا يتحرقون شوقاً لفوز اليمين بالجولتين، لماذا؟ لمجرد سماع الرئيسة الفرنسية غير المأسوف على عدم نجاحها وهي تُصدر قرارها المدوّي بالاعتراف الذي لا رجعة فيه بمغربية صحرائنا… فكيف بالله يفكّر هؤلاء المثقفون، المغاربة؟!!
إن “مغرب اليوم”، الذي لا يُشبه “مغرب الأمس” إلاّ في الإسم، وهذا ينساه أولئك المتأرجحون أو يتناسَوْه، لا يهمه أن تعترف فرنسا أو لا تعترف، لأنه أولاً أصبح متخصصا في فهم عقلية سكان الإليزي ومَن يقف خلفهم من دهاقنة الدولة الفرنسية العميقة، المرتبطة بواسطة الحبل السري بالمحفل الماسوني العالمي، الذي يعلم العالم قاطبة بأنه الموجِّه الحقيقي لدفة الأنظمة الأوروبية بالكامل، بما فيها بريطانيا العظمى، التي يقع المقر الرئيسي لذلك المحفل في أحد قصورها الفخمة…
المغرب، يا حضرات، موجود بصحرائه، والصحراء الغربية موجودة بمغربها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما أن المساس بحبة رمل من رمالها دونه دماء المغاربة قاطبة… فلماذا هذا الاهتمام المفرط باستحقاقات فرنسا، بينما حقيقتنا تؤكد أننا لا يهمنا انتصار اليمين أو اندحاره ولا اليسار ولا غيرهما في ذلك البلد بالذات، لعلمنا بما يعتمل في عقول وأفئدة ساكنة الإيليزي رغم تعاقب أحزابهم على الإقامة به، من حقد دفين على مستعمراتهم السابقة، وخاصة منها مَن وجدت القوة، مثل مغربنا، للانعتاق من كل أشكال التبعية للمستعمِر القديم، الذي صار عليه والحالة هذه ان يختار بين طريقين لا ثالث لهما: إما التعامل معنا ندّاً لندّ، وتبادل المصالح معنا أيضا تحت شعار “رابح رابح”، الذي يتقن المغرب استثماره أيَّما إتقان؛ وإما إخلاء السبيل لمرور شركاء جدد يقفون في طابور طويل يمتد من أقصى الخليج العربي إلى أقصى شرق آسيا؛ ومن رأس الرجاء الصالح إلى تخوم الجبال الجليدية الكبرى بأقصى شمال “القارة الفَتاة”…
المغرب يا حضرات، الذي نعيش اليوم حركته الممتشقة والمشرئبّة باتجاه الأعلى، لا يهمه أن يكون على رأس حكومة باريس فلان أو علان، من هذا الخندق أو ذاك الآخر، فجميعهم قنافد، والقنافد كما نعلم لا يوجد بينها أملس، وعليكم أن تتأكدوا بأن المسار الذي اختاره هذا المغرب لتغيير قسمات جنوبه الصحراوي بما يقيمه من مشاريع، ويستقبله من استثمارات تصيب أرقامها بالدوخة، يستطيع غدا أو بعد غد أن يجعل حكام فرنسا يأتون صاغرين، كما فعل مع إسبانيا وألمانيا، لإعلان اعترافهم بقوة “الظاهرة المغربية”، وبكون المغرب هو مفتاح “المنتدى الإفريقي” وأمين سره، وبأنه “الكود” الوحيد الذي ينبغي على فرنسا أن تتعرف بأيدي المغاربة على شفرته، إذا كانت لا تزال تطمح إلى إيجاد موطئ قدمٍ لها في القارة السمراء شريطة الإقبال علينا بعقلية “رابح رابح”…
والجميل، أن الأفارقة يعون هذا جيداً، ويتفهمونه جيداً، ويتعاملون مع جميع شركائهم على أساسه…
___________
محمد عزيز الوكيلي
ٱطار تربوي.