الرئيسية / كتاب البديل / من أين جاء الإفساد في الأرض؟ “.. السر لا يكمن في النون بل في سحنون”!!

من أين جاء الإفساد في الأرض؟ “.. السر لا يكمن في النون بل في سحنون”!!

 

إنّ العلم لم يكن، ولن يكون بالمطلق عنصراً ضارّاً، والعليم الخبير لم يخلق العقل ويمنحه القدرة على استيعاب العلوم والمعارف إلا لأنه أهّله لذلك أفضل تأهيل، وجعل له في طبيعته من ممكنات التعامل مع العلوم والمعارف ووسائل البحث والفهم ما يجعله قادراً على أن “يحافظ على الأرض بعد إصلاحها”، لا أن يخرج عن الطَّوْع ويُخالفَ نهيَ ربه “فيُفسد فيها بعد ذلك الإصلاح الفطري” الذي فطرها الله عليه منذ ملايير السنين!!

إذَنْ، من أين جاء هذا الضرر، الذي أفرزته علوم ومعارف كثيرة لا يتسع المقال لعدّها وإحصائها، كالفيزياء النووية، والبيولوجيا، والفلك على سبيل المثال لا الحصر… واللائحة طويلة وحافلة؟!

إن الضرر لم يأت من العلم بتاتاً، وإنما من الإنسان العالِم افتراضاً.. لأنه لو كان “عالما حق العلم” لأدركته الخشية من ربه فيما يقول ويخطط ويفعل برصيده العلمي والمعرفي (“إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ”- فاطر 28)… فهو الذي انحرف عن المسار القويم بعد كل ما حققه من القوة التي أورثه العلم إيّاها.. ففاته التسديد وهجرته الحكمة وزالت من قلبه الخَشية!!

كنتيجة لهذا الانحراف:
– صنع عالِمُ الذرة قنابلَ هدروجينيةً وذَرّيةً ونوويةً ووسائل وأسلحة أخرى للدمار الشامل، بدلاً من استثمار ذلك مثلاً في تحقيق اكتفاء عالمي إنساني من الطاقة النظيفة؛

– وابتكر عالِمُ البيولوجيا وسائلَ لخلط الأجناس خارج ناموس الطبيعة “فغيّر بذلك خَلْقَ الله”، بدلا من استغلال ما بين يديه من ذلك العلم الدقيق والتجريبي في تحسين النسل وتقوية الإنتاج، وتحقيق الاكتفاء الكوني في الغِذاء والدواء مثلاً؛

– وتخطَّى عالِمُ الفلك مَحاذيرَ كثيرةً لم يُعِرْها الْتِفاتَهُ فانخرط في التنجيم والعرافة، أو في التنظير “لحربِ نجومٍ” لا ريب أنها آتيةٌ بعد أن كانت مجرد مشاهد غرائبية في أفلام الخيال العلمي وليس أكثر!!!

والنتيجة أيضاً؟ أنّ العلماء أصبح نفر كبير منهم أعداءً للإنسان وأمْنِه، وللأرضِ ومجالِها، وللطبيعةِ وساكنتِها، فتفاقم التلوث، واتّسع ثُقب الأوزون، وارتفعت نِسَب الاحتباس الحراري، بل تخطى الأمر كل هذا الإفساد فتطورت صناعة الكوارث، عن قصد وبعِلم، بعد امتلاك القدرة على التحكّم فيها بمجرد الولوج إلى أسرارها الفيزيائية والوجودية، حتى شاهدنا زلازلَ وفيضاناتٍ وسيولاً مصنوعة ومُفبركة عن قصد، و”بسبق الإصرار والترصّد” كما يقول فقهاء القانون!!!

باختصار شديد، سقط الإنسان العالِم سقطة مدوية بعد كل ما أدركه بعلمه من القوة والقدرة والسبق، حتى صار نظيرُه الأمّيُ الجاهلُ أفضلَ منه واقعاً ومآلاً!!!

يذكّرني هذا الواقع المُلتبس بقصة حملها إلينا الأدب الصوفي عن شيخ عارف كان اسمه “سحنون”، قيل إنه كان يفعل الأفاعيل والأعاجيب بجداولَ وأوفاقٍ سحريةٍ مبنيةٍ على استعمالات وتطبيقات وطقوس غريبة عجيبة لحرف “النون” (ن)، فكان يستطيع كما تقول الرواية أن يصنع بذلك اوراقاً مالية، ويفتح كنوزاً، ويخترق حُجُباً تخصّ أموراً يُفترَض أنها في حكم الغيبيات… حتى صارت شهرته ناراً على عَلَم!!

وذات مرة سأله أحد مريديه عن السر فيما آل إليه من الحكمة واكتسبه من الكرامات والخوارق، فكان رده أنه يستعمل حرف “النون” في كل تطبيقاته، وأن هذا الحرف فيه من الأسرار ما لا يخطر على قلب بشر، ثم أطلَعَ الشيخُ مُريدَه على بعض تلك الأسرار والتطبيقات…

مر زمن غير يسير عاد بعده ذلك المُريد إلى شيخه ليخبره بأنه تعب في استعمال حرف النون بكل الطرق التي خَبِرَها وتعلمها على يديه دون أن يحقق بذلك أي كرامة من كرامات شيخه.. فما كان من الشيخ إلا أن أجابه بكل هدوء وبساطة:
– يا ولدي إنّ السر ليس في “النون”، بل في “سحنون”!!!

السر إذَنْ.. فيما يشهده عصرنا من الإفساد في الأرض على أيدي علماء كُثْرٍ، لم يكن كامناً أبداً في العلم الذي صار مضرّاً ومهدِّداً لبقاء الإنسانية ولكل الساكنة البرية و البحرية والجوية، بل السر في العلماءِ الممسكين بأَزِمّةِ العلم ومَدارك المعرفة أنفسِهِم، والخارجين بكل ما بين أيديهم من وسائل العلم عن مسارها الفطري، الطبيعي والقويم!!!

نهايته.. إن الذين يحلو لهم أن ينتقدوا العلوم الحديثة بدعوى أنها افسدت الطبيعة والبيئة ولوّثت الحياة الأرضية بكل الأضرار والمفاسد، ويُفتوا بسريان حكمهم القيميّ هذا على كل ما هو علماني، حتى أنهم جعلوا العلمانية رديفا للإفساد، وبالتالي للكفر والإلحاد، هؤلاء، عليهم أن بنتبهوا إلى أن العلم والعلمانية كانا دائما، وسيبقيان بلا ريب، قيمتَيْن مجرّدتَيْن في حد ذاتهما، نقيتَيْنِ طاهرتَيْن بالفطرة، وإنما جاء الإفساد إليهما على أيدي مَن ينتسبون إليهما من الأقوام الباغية والخارجة عن نواميس الطبيعة الإنسانية والبيئية والكونية!!!

إن حرف “النّون” هنا إذَنْ، يُماثِله العلم والمعرفة، وبالتالي فالحرف مجرّدٌ وقابلٌ لكل الاستعمالات… أما “سحنون” فيُماثِله كلُّ متطفل على العلوم والمعارف ينحرف بها عن مسارها الطبيعي والمنطقى ليخدم بذلك أوطاراً خارج الفطرة وخارج الطبيعة!!!

السر إذن ليس في العلم بل في العالم، وليس في المعرفة بل في العارف… ولله في خلقه شؤون وحٍكَم… وكل عام وأنتم بخيى!!!
___________

محمد عزيز الوكيلي
إطار تربوي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *