من المسؤول عن إصابة المِخْيال الشعبي بالعُقم؟!
محمد عزيز الوكيل
المناسبة: إشراف ملكي سامٍ على أحد النشاطات التنموية التي يشرف عليها جلالة الملك محمد السادس شخصياً، في إطار استجابته المعهودة لانتظارات المواطنين ومَطالبهم وعمله الدؤوب على تلبيتها في مختلف مجالات الحياة العامة.
المفارقة: صدوح الجماهير الحاضرة، والتي كانت في انتظار قدوم جلالة الملك، بشعار ينبعث من رماد السنين، وهو شعار كان الشعب المغربي بتوجيه من قواه الوطنية يرفعه في وجه قوات الحماية الفرنسية، التي كانت تسدّ بواباتِ المدن المغربية العتيقة ومَنافذَها، في وقت كانت الحماية الفرنسية تخطط فيه وتنفّذ لفرض “سلطان/دمية” هو محمد ابن عرفة، ثم وهي تضعه فوق عرش المملكة الأبية، غداة نفي الملك الشرعي الوحيد إلى مدغشقر بجزيرة كورسيكا، كما يضع الفلاح طراطيره المصنوعة من الأسمال والقشّ فوق الأكَمات ليخيف بها أسراب الطيور المهاجمة!!
كان شعار “ملكنا واحد محمد الخامس”، وهو الشعار الذي كان الشعب المغربي يردده آنذاك، مَصوغاً من لدن القوى الوطنية التي كانت تؤطِّر الكفاحَ الوطنيَّ الجماهيري، بأسلوب جد مناسب للمرحلة والموقف، فكان جواباً شعبياً تلقائياً قاصماً لظهر خونة الداخل والخارج أمثال الكلاوي والبغدادي وأحد أعلام العائلة الكتّانية… وغيرهم كثير، مؤكداً على أن الملك المفروض بالقوة لن يكون عاهلاً للمغاربة، كل المغاربة، مهما كلفهم ذلك من تضحيات، وبالتالي فقد كان شعاراً عملياً كرّسته وأكدته وأثبتت صِدقَه ومِصداقيتَه عمليات الفدائيين المغاربة التي تلت ذلك مباشرةً، وفي مقدمتها المحاولة المباشرة للقاوم المرحوم “علال بن عبد الله”، الذي داهم موكب محمد بن غرفة وكاد يغرس خنجرَه في صدر ذلك السلطان الطرطور، لولا تَدَخُّل أحد ضباط العسكر الفرنسي، الذي أنقذ الدمية وأزهق نفسَ الشهيد برصاص مسدسه، في حركة أشبه بمَشاهد أفلام السينما، أمام أنظار المغاربةِ قاطبةً والعالَمِ بِرُمّته!!
“ملكنا واحد محمد الخامس” كانت، إذن، بمثابة الصيغة الشعبية المشتعلة ناراً، والقادرة في زمانها على جعل الفرنسيين يشعرون بهزيمة مُرّةٍ رغم أنها لم تكن قد لَحِقَتْ بهم بَعد، وهم الذين كانوا لغبائهم السياسي، وجهلهم بالتاريخ المغربي، يعتقدون أن مَلْءَ أريكةِ العرش بأي كركوز من شأنه أن يَفُتّ في عضد المغاربة شعباً وقِوىً وطنيةً ويُسكِتَ صُراخاتِهم ويُنهِيَ مقاومتَهم، وكأنّ المغاربة كانوا مُلتفّين حول كرسيّ العرش، وليس حول الجالس عليه، الذي من فرط معايشته لهمومهم وانتظاراتهم كان رمزاً لا بديل له للكفاح والتضحية وهم يرونه يفضّل المنفى، بعيداً عن الوطن والأهل والأحباب، على أن يُجارِيَ ثعالب الإيليزي فيما كانوا يخططون له، ليس لضم المغرب ضماً عضوياً إلى دولتهم، فذلك كان مستحيلاً بكل المعايير، وإنما لضمان استمرارهم في نهب خيرات المغرب من جهة، وإثخانهم من جهة أخرى في قَضْمِ قِطعٍ غاليةٍ من ترابه الوطني وسِجِلِّهِ التاريخي يضمّونها إلى “مقاطعتهم الإفريقية لما وراء البحار”، التي أطلقوا عليها في زمن لاحق اسم “الجزائر”!!
والآن، وبعد أن نال المغرب استقلالاً كاملاً ومستحَقاً بقيادة ملكه محمد الخامس، رحمه الله وأسكنه فسيح جِنانِه، وبعد أن تطوّر وعلا شأنه بقيادة الوريث الأول لذاك الفدائي الأكبر، ثم وريث هذا الأخير، الجالس راهناً على عرش البلاد، والذي لا ينازعه في عرشه منازع، ولا يشكك في شرعيته ملكاً قائداً وأميراً للمؤمنين مُشَكِّك، مالذي يمكن أن يُشكّله مثل ذلك الشعار، الذي أصبح والحالة هذه نشازاً لا معنى له، ولا فائدةَ منه، بل قد صار يشكّل بالبداهة نغمة غريبة وشاذة داخل النسق المنسجم لمغرب لم يعد بينه وبين مغرب ذلك الأمس إلاّ رَجْعُ الذكرى، وصدى بعيدٌ وضغيفٌ لتاريخ ذهب إلى غير رجعة…
أليس غريباً أن يؤكد أبناء الشعب ذاته كما فعل آباؤهم وأجدادهم قبل نحو سبعين سنة، على أن “ملكنا واحد محمد السادس” كما يقول ذلك الشعار التاريخي الآفل، ثم يرددونه بنفس الحماسة والحفاوةٍ والمودة الجارفةٍ في زمن يجلس فيه هذا العاهل وحده دون غيره فوق عرش وطنهم المستقل والمتحرر والصاعد؟!
السؤال هنا لا يرد بهذا التكرار والإلحاح إلا ليثير الانتباه إلى المفارقة الحقيقية الكامنة خلف هذه الظاهرة الشعبية البريئة والتلقائية، وهي أن التأطير الذي كانت تضطلع به الأحزاب والمؤسسات الأخرى الثقافية والاجتماعية في فترات الحماية وما تلاها، لم يعد أمرا واقعاً برغم دسترته، ولو كان مستمرا في الزمان والفضاء لَتطوّرت شعاراتُنا بتطوّر أحوالنا وقضايانا، ولكن الأحزاب وباقي المؤسسات المشار إليها يبدو أنها استقالت من مهامها الدستورية، بعد أن تحولت إلى دكاكين انتخابية، وصناديق لجمع الهِبات والإعانات، وتَلَقّي مداخيل الانخراط التي أصبحت تُقدّم لقاء تأطير لا يتحقق على أرض الواقع، ومقابلَ توجيه سياسي واجتماعي وثقافي لا يتمّ بأي صورة من الصور، ولقاء تنظيم تفتقد إليه الأحزاب والهيئات نفسُها منذ زمن… ومن ثَمّ فهي المسؤول الأول عن هذا العقم الذي أصاب مواطنينا البسطاء فجعلهم يعيشون على الدوام على شعارات الماضي البعيد دون حتى أن يجدوا من يجدد مفاهيمهم ويطوّر وسائل وآليات تَمَثُّلِهم للواقع في زمانهم الراهن، الذي لا يشبه في شيء زمان ذلك الشعار البسيط والبريء والصادق… ليُصبح واقع الأحزاب والهيئات المدنية المذكورة تجسيداً صادقاً للمثل المنطقي المأثور: “فاقد الشيء لا يعطيه”!!!
__________
محمد عزيز الوكيلي
إطار تربوي.