قصة : بوشعيب حمراوي
مقدمة:
قصة عبد الله لماني كهربائي مغربي انتهت رحلة سفره من الدار البيضاء إلى مسقط رأس والديه بمدينة طاطا، باختطافه رفقة مجموعة من المدنيين كانوا على متن حافلة من طرف عصابات مسلحة من البوليساريو تسللت إلى المغرب. تفاصيل سجن دام زهاء ربع قرن من التعذيب والتجويع، عاشها عبد الله رفقة 14 مدنيا ومئات الجنود المغاربة الأسرى. ومعهم ومدنيين موريتانيين وماليين رفضوا التجنيد وآخرين من جنسيات مختلفة. كشف عن وجود مدنيين مختطفين بالسجون الجزائرية، بعد أن سرب من داخل سجن الرابوني لائحة بأسماء وهوية 142 أسير مغربي أعدموا من طرف المخابرات الجزائرية وخريطة مقبرة جماعية ل45 مغربي ضمنهم عشرة مجهولي الهوية، لجمعية فرنسا الحريات التي ترأسها دانييل ميتيران زوجة الرئيس الفرنسي السابق، وتساءل عن مصير التقرير الفرنسي الذي أعاد جمعية فرنسا الحريات إلى صوابها، وأبرز لها حقائق ما يجري بسجون تندوف، وعن مصير مندوبة الجمعية عفيفي كرموس الفرنسية ذات الأصول التونسية والتي أدمعت عينيها عند رؤيتها لجحيم تندوف، فقررت دعم الأسرى المغاربة، لكن اسمها اختفى واختفى معه التقرير الصادم للسلطات الجزائرية الذي سبق ونشر على موقع الجمعية الالكتروني، وتطرق لماني إلى مذكراته التي تحللت بفعل عوامل الطقس بعد أن ضل يحررها لمدة سنتين خلسة على أكياس الاسمنت الكرتونية بقلم الرصاص ويدسها تحت رمال الصحراء، و قبل أن يعيد كتابتها ويسربها عبر طبيب فرنسي، والتي كشف من خلالها عن معانات الأسرى المدنيين والعسكريين داخل السجون الجزائرية.
اغتيال أحلام حبيبين بكريان طوما بالدار البيضاء
في الصورة : لماني وزوجته
ولد عبد الله لماني المدني المغربي العائد من جحيم ربع قرن من السجن والعذاب، سنة 1953 بمدينة الدار البيضاء، كان كباقي شباب المغرب يبحث عن سبيل لضمان مستقبل يضمن له تكوين أسرة ويمكنه من مساعدة والده وجدته، في الوقت الذي كان يتألم يوميا على فراق أمه التي رحلت إلى دار البقاء في سن الطفولة. كان عبد الله ينحدر من أسرة فقيرة تعيش بمنطقة سيدي البر نوصي أحد هوامش عاصمة المغرب المالية والاقتصادية.
انتقل للعيش بالتجمع الصفيحي كاريان طوما وهو في سن العاشرة. حيث توطدت علاقة أسرته مع أسرة حبيبته عائشة بركات التي ولدت وهو في سن الثالثة عشر. كان يحملها ويداعبها بين ذراعيه. كبرت عائشة وكبر معها حلمه في أن تكون زوجته، وأم ذريته. كان بعمل كهربائي بإحدى شركات إنتاج أعواد الكبريت (الوقيد)، منذ سنة 1974، ويتابع دراسته بمعهد للتكوين المهني، رغبة منه في تحسين مدخوله المالي الشهري. اقتنى شقة بحي بورنازيل، بعد أن اشترى ما يعرف بمفتاح المنزل (الساروت)، وبقي يؤدي سومة الكراء الشهرية. كما فتح حسابا بنكيا لبوفر بعض النقود(حوالي ثلاثة ملاين سنتيم). كان حلمه وحلم أبيه وأسرة زوجته، أن تمر الليالي والأيام وتكبر عائشة لتبلغ سن الزواج. أو أدنى بقليل 17 أو 18 سنة، ليعقد قرانه عليها. لكن شاءت الأقدار أن يتم اختطافه وعمره أنذاك 26 سنة، وكان عمرها 13 سنة. لتطوى صفحات الحب والهيام والأمل، وتفتح بعدها دهاليز الانتظار ويدخل مشروع العمر ثلاجة الحياة القاسية. ليتجمد طيلة ربع قرن.
رحلة الشؤم إلى مدينة طاطا وكمين كومندو البوليساريو الذي اختطفه
في الصورة : لماني قبل الاختطاف
لم يسبق لعبد الله أن زار مدينة طاطا حيث أصول والده، وحيث تتواجد عمته التي لم يراها في حياته، وكذا بعض من أقاربه. لكن وبعد أن بلغ سن 26، وصار له راتب شهري من عمله كهربائي. اقترح على صديقين له في العمل السفر لبضعة أيام، لقضاء إجازة الشغل بمدينة طاطا. ولتكون فرصة لاكتشاف المنطقة وزيارة أقاربه. فاستجابا صديقه أحمد بن بوبكر ميكانيكي من مدينة تطوان وعبد الإله نجار من الدار البيضاء، وسافر الكل يوم 11 غشت 1980 إلى مدينة اكادير، حيث قضوا أيام رائعة في الراحة والاستجمام، واستقلوا يوم 18 غشت الحافلة في اتجاه مدينة طاطا. إلا حرارة الشمس المرتفعة والحارقة، جعلتهم يقررون العودة بعد يومين فقط. ركبوا حافلة للنقل العموم في اتجاه مدينة اكادير، ومنها إلى مسقط رأسه بالبيضاء. لكنهم فوجئوا على بعد 20 كلم من مدينة طاطا، برجل ملثم مدجج بالسلاح يسد الطريق، ويرغم السائق على الوقوف، ليداهمهم حوالي ثلاثين مسلحا (كومندوا ) ملثمين، اختطفوا كل الركاب وعددهم حوالي عشرين شخصا (رجال وأطفال ونساء ومسنين). أوقفوهم في صف واحد على قارعة الطريق حتى اعتقدوا أنهم سينفذون فيهم حكم الإعدام، وضلت مجموعة منهم تراقبهم، فيما انشغل الآخرون في سلب ونهب كلما يملكون من نقود وممتلكات شخصية وألبسة، وأفرغوا الحافلة من الحقائب، ثم انتقوا سبعة أشخاص من الركاب ضمنهم التطواني صديق عبد الله والسائق لحسن القدميري ومساعده الجابي الحسين عوما، إضافة إلى أربعة عسكريين(الحسين، الغوزي، إبراهيم، لخبيش)، ثلاثة منهم كانوا يلبسون بدلهم العسكرية، فتدخل عبد الله ليوضح لهم أن صديقه مدني ليس له أي ذنب، لكنه فوجئ بأحدهم ضربه بمؤخرة البندقية على رأسه، حتى أفقده الوعي. استفاق بعدها وهو مكبل يخضع للضرب من طرف مجموعة منهم. ورموه مع مختطف آخر فوق كروسري إحدى سيارة (لوندروفير)، حيث كان تتواجد عدة ألغام. وهي سيارات كانت مخبئة، وتمت المناداة على سائقيها. وتركوا باقي الركاب، باعتبارهم غير قادرين على العمل. وقاموا بصب الوقود على هيكل الحافلة وأضرموا النار فيها، وقادوا المختطفين إلى حيث لا يدرون…
رحلة الاختطاف والوصول إلى الأراضي الجزائرية
كان بعض أفراد الكومندو يتكلمون بالحسانية وآخرون يتقنون اللهجة العامية الجزائرية، مسلحين بأسلحة متطورة وأخرى مدنية (سكاكين وخناجر وسيوف وشواقر…)، يرتدون ألبسة شبه عسكرية لم يستطع عبد الله التعرف على جنسياتهم الحقيقية.
مباشرة بعد تكبيلهم وإحراق الحافلة، توغل الكومندو في مسالك وعرة داخل عمق التراب المغربي (واد درعة) عبر أراضي مستقلة حينها منذ سنوات. أوصلوهم في الغد إلى حيت يوجد ما يسمى ببرج (مركالة)، كان قد بناه الفرنسيين فترة الاستعمار لمراقبة الحدود، ويستعمله حاليا الجزائريون. ذاق المختطفون طيلة فترات الرحلة كل أنواع العذاب، رموا بهم مثل الأكياس(الخناشي) فوق العربات مكبلي الأيدي والأرجل، وعند البرج رموا بهم على الأرض حيث تجمهر الجنود الجزائريين وعناصر البوليساريو، منهم من يضحك عليهم وآخرون يضربونهم و يبصقون عليهم… تم استنطاقهم من طرف ضباط جزائريين بهدف الوصول إلى معلومات عسكرية. قال لهم عبد الله إنه مدني وليس عسكريا. فرد عليه أحد الضباط الجزائريين: (ستؤدون ثمن حرب سنة 1963، و ما فعلوه بنا آبائكم وأجدادكم سنحولكم إلى كلاب). بعدها تم توزيعهم كالعبيد على الكتائب من أجل خدمتهم في المطبخ والتنظيف وحفر الآبار والخنادق، وجلب المياه.
في الصورة: لماني ورفيقه التطواني …
عمليات استنطاق المحتجزين
قال عبد الله إنه تم استنطاقه من طرف ضباط جزائريين، فيما كان أفراد من البوليساريو يتابعون فقط ما يجري، ويتدخلون بأمر من الضباط من أجل تعذيبهم. يريدون معلومات يجهلها المختطفون المدنيين. لكنهم يسرون على أخذ اعترافات غير صحيحة لأهداف معينة. كان التعذيب يومي، إضافة إلى فرض قيامهم بالأشغال الشاقة والتجويع خدمة للكتيبة التي كانوا عبيدا لها. كان الضباط الجزائريون يتلذذون يوميا بآلامهم.
تم نقل عبد الله إلى مكان آخر حيث وجد 15 جنديا مغربيا أسيرا، أكدوا له أنه تم اختطافهم حينها من منطقة سيدي عمارة التابعة لمدينة أقا، وهي أراضي مغربية مستقلة منذ سنة 1953. وجدهم يحفرون الآبار والمخازن الأرضية للأسلحة والسيارات والمدافع والدبابات… بواسطة (البالة والفأس)، يعملون ليل نهار بدون انقطاع، وتمنح لهم في بعض الفترات الليلية نصف ساعة أو ساعة للنوم مفترشين الأرض. وكل من وجد يفترش حجر أو كتلة رملية يلقى العذاب العظيم. أصبح أسيرا مثلهم يذوق نفس العذاب اليومي. 18 ساعة من العمل الشاق، بدون راحة أو انقطاع . تورمت يداه وجرحت، وأصبحت كفاه كلها ملطخة بالدماء. ولم يعد يستحمل الأكل (الأرز الممزوج بالغبار). أصيب الكثير بمرض (الإمساك ) (القبض). كانوا يشربون مياه متعفنة مخزنة داخل براميل الوقود الفارغ. رائحتها كريهة ومذاقها لا يطاق. أصبحوا مثل الحيوانات. حتى في فترة النوم القليلة، يعيشون وسط الأحلام المزعجة والكوابيس. قد تحلم أنك حر طليق تتجول بمدينتك، لكن وبعض لحظات تستفيق على ألم الأسلاك الكهربائية وهي تزركش مختلف جسدك، لتصاب بالهوس والانهيار النفسي الذي أدى بالعديد إلى الجنون والهوس.
عندما تكون في الخلاء تعمل كالعبد، لا يمكنك تحريك عنقك، أو تنظر إلى ما حولك أو تنظر إلى زميلك المعتقل، ووكل من خالف أوامرهم ينال الضرب بأسلاك كهربائية، فالتعذيب كان غذائهم اليومي (رجيم) حتى بدون مخالفات.
مثل العبيد يوزعونهم على ثماني نواحي بها كتائب تمتلك السجناء، ينظفون لهم ملابسهم وأغطيتهم، ويطبخون لهم ويحفرون لهم الآبار والخنادق، يوقضون النيران ويجلبون المياه من الآبار لهم وللرعاة الموريتانيين لتشرب إبلهم…حتى الموريتانيين الرعاة (السراح ) كانوا يلجون إلى منطقتنا ويشربون مواشيهم من الآبار التي يحفرونها المختطفون بسواعدهم.
الانتقال إلى سجن مركزي المعروف بالرابوني
في الصورة: منطقة سجن الرابوني وخلف الجدار توجد إدارة الدفاع البوليساريو ومقر الرئيس
تم نقل عبد الله إلى سجن يدعى (الرابوني) رفقة أربعة عشر جندي أسير. مباشرة بعد وصولهم، تم استنطاق الجنود وهم صحراويين مغاربة، من طرف أعضاء من القيادة المركزية الوهمية، ولم يستنطقون عبد الله المدني. وضعوا جميعا في غرفة ضيقة، وطبقت عليهم سياسة التجويع. وجبة واحدة كل يوم، وتسريح يومي لدقائق كل يوم عند الغروب من أجل قضاء حاجياتهم البيولوجية. كل أسير طرق الباب طالبا ماء للشرب أو قضاء الحاجة يلقى العذاب الأليم، لدرجة أن البعض كانوا يتبولون ويغيطون داخل ملابسهم.
بعد أشهر أخرجوهم من تلك الزنزانة، وجمعوهم بباقي أسرى السجن. كانت حينها حوالي 600 سجين، رآهم عبد الله للوهلة الأولى، فضن أنه سجن للمسنين. كلهم ضعاف البنية والجسد، والشيب يملأ شواربهم وأذقانهم ورؤوسهم. اقترب من بعضهم ودخل معهم في حديث حذر. ليكتشف أنهم جنود مغاربة معظمهم شباب. حولهم التعذيب اليومي إلى هياكل عظمية متحركة، غطى القمل أجسادهم.
دخل رفقة هؤلاء الجنود الأسرى في أسلوب الحماية من أي شيء جميل وصحي الذي فرضته البوليساريو بأمر من ضابط جزائريين. اشتغلوا في الحفر وحمل الأثقال شمال دولتي مالي وموريتانيا. دخلوا الأراضي المالية والموريتانية عدة مرات أمام أنظار الجنود الماليين والموريتانيين. بل إن بعض الرعاة الموريتانيين وطدوا علاقاتهم مع البوليساريو لدرجة أن الأسرى كانوا يقومون مقامهم في تدبير أكل وشراب جمالهم.
كانت هناك أحزمة مغربية خاصة فقط بالمدن (الداخلة والعيون..)، وكانت الكتائب تنسل إلى ما بين الأحزمة وتتسرب إلى داخل التراب المغربي، وتستغل السجناء للعمل على خلق المسالك بين المدن المغربية إلا أن تم بناء الحزام الأمني الكبير.وكل من حاول الهرب يكون مصيره العذاب حتى الموت، كما تتم معاقبة الكل بالجوع والعراء والضرب بالسياط.
هناك فصلين فقط الصيف الحارق والشتاء البارد القارس، يتركونهم في عدة مرات حفاة وعرات ، حتى مطلع الفجر، والصفارات(يسمونها المحاضرات) تدوي كل نصف ساعة من أجل إيقاظهم، كلما أحب (رشقات) صاحب الصفارة وعليهم النهوض بسرعة والوقوف مصطفين أمامه عراة.
عبد الله الصامد والمبادر
بعد عقد من الزمن داخل سجن الرابوني، تغيرت نظرة عبد الله للأشياء، وتغيرت معها تصرفات عناصر البوليساريو الذين ألفوا زيارتهم كل يوم وتعذيبهم. فمع الزيارات المتتالية لممثلي الصليب الأحمر الدولي والجمعيات مدنية أوربية وممثلي بعض وسائل الإعلام ورغم قلتها وولاء معظمها للأجهزة الاستخباراتية الجزائرية، فان حدة المراقبة والتعذيب خفضت نوعا ما، وتيسرت معها عملية البحث عن معلومات أو تسريب بعضها، مما جعل عبد الله يواظب على استفسار الأسرى المغاربة عن كل ما رأوه وسمعوه أو عاشوه، يطلب من السائقين معرفة عدد الكلمترات التي تفصل السجون والمراكز والعاصمة الجزائرية ومدينة تيندوف. اكتشف أن حقيقة سجن الرابوني الذي بجواره ما يسمى لديهم بوزارة الدفاع البوليساريو،بعد مكوثه حوالي 22 سنة. فقد كان مركزا للمخابرات الجزائرية، به ضباط جزائريين ومعهم مستشارين عسكريين كوبيين، فيما أفراد البوليساريو كانوا فقط خدام ينفذون أوامرهم.
يبعد سجن الرابوني ب 26 كلم جنوب تيندوف. ولدى الكيان الوهمي سجنين رئيسيين وهما سجن الرابوني وسجن آخر يطلق عليه اسم سجن تسعة يونيو يوجد في الجنوب الشرقي لتيندوف بحوالي 30 كلم وسبعة كلم عن الرابوني. بها أكبر عدد من المغاربة عسكريين ومدنيين. وفي حالات الطوارئ يجمعون المحتجزين داخل سجن واحد يصل العدد الى900 معتقل، كما لديهم حوالي 22 سجن ثانوي يلقبونها بالمراكز، إضافة إلى ثمانية كتائب تستخدم السجناء عبيدا لخدمتها، ينامون وسط حراستهم ويخدمونهم بالنهار. وهي سجون شبيهة ب(الموقف) لليد العاملة. كل الكتائب تقتني منها اليد العاملة.
في الصورة: : السجن حمدي ابا شيخ حيث السجناء العسكريين والمدنيين عائدون اليه من العمل في الاعمال الشاقة
البطل وزير الإعلام .. المشرف على إعدام المغاربة
حضر عبد الله بالصدفة لعملية استنطاق جندي مغربي صحراوي يدعى هبادي إبراهيم من مدينة طاطا. جاءه ذات مرة داخل السجن أربعة من عناصر البوليساريو يتقدمهم رئيس السجن، وخاطب الجندي: ألم تعرفني؟ فسكت الجندي بعد أن أنكر معرفته به، وبعد أن ضل الرئيس يطرح عليه نفس السؤال والغضب يملأ وجهه، ثم أضاف: أنا خالك ولا تعرفنني…وخرج غاضبا. سأل عبد الله الشاب عن الشخص الذي يدعي أنه خاله، فأجابه أنه خاله و شقيق أمه، لكنه أنكره لكي لا يضغط عليه من أجل الانتماء إلى جبهتهم. واستمر تحريض الشاب للانضمام إلى جبهتهم، وكان كل مرة يجدد تصريحه، أنه صحراوي مغربي، ولن يتنازل عن جنسيته. صمود وشهامة الشاب الذي رفض كل الإغراءات زادت من صبر عبد الله على العذاب اليومي.
جنود و مدنيين تعرضوا للعقاب بالتعذيب حتى الموت
في الصورة: سجناء مدنيين وعسكريين … ويظهر السهم المدني الذي تم اعدامه بالرصاص سن 1994 بعد ان رفض الامتثال لاحد حراس السجن بسبب ما الم به من تعب
يذكر عبد الله مغربيا مدنيا يدعى لشهب عمر من مدينة طاطا، اختطف سنة 1978، حاول خلال شهر دجنبر من سنة 1986 الفرار من سجن الرابوني ، رفقة مدني آخر وجنديين، وقد تم إعدامه، على أساس أنه هو المخطط لفكرة الهرب، كما أعدم جندي لأنها كانت محاولته الثانية للهرب. كما تم إعدام الشرقاوي دليل صديق عبد الله من مدينة بني ملال، وهو جندي من القوات المسلحة أسر يوم 11 غشت 79 ببئر انزران. قتل سنة 1984 بعد محاولة الفرار من سجن الرابوني. أعدم بطريقة الجر عن طريق سيارة (لوندروفير) إلى أن اقتلعت يديه وتناثرت أشلاء باقي جسده.
وكذا الجندي(يوطنان) موزون العربي من درب الكبير،قتل بقضيب كبير خلال شهر فبراير من سنة 1991، بعد أن تمكن أحد أصدقائه من الهرب وكان يرقد بجانبه.
قال عبد الله إن الكيان الوهمي أعدم كل الأجناس التي سقطت في قبضته من جزائريين وموريتانيين وماليين ومغاربة.
أرهبوا المواطنين الصحراويين داخل المخيمات لكي لا يكشفوا عما يتلقوه من عذاب للجمعيات والصحافة الأجنبية التي كانت تأتي ولو أن معظمها متواطئ معهم.هناك صحراويين اكتشفوا أنها لعبة جزائرية، تم إرغامهم على الاعتراف بأنهم استخبارتيين وخونة يدعمون المغرب وأمدوهم بلوائح لصحراويين آخرين رأوا أنهم لا يدعمونهم.
يقوم الشخص بالاعتراف عبر أبواق (مكبرات الصوت)، توضع للجماهير الحاضرة في مهرجان يعد لهذا الغرض بحضور لجنة للجبهة مكونة من جزائريين وصحراويين. ويطلب منه الإدلاء بأسماء شركائه المزعومين للتخلص منهم، فيبدأ المعترف بأقوال وأفعال ليس له بها أي ارتباط في البكاء و طلب لمغفرة لما اقترفه، إنها خطط المخابرات الجزائرية، ليثبتوا عليه الخيانة العظمى.
ومن يرفض الاعتراف يحال على سجن الرشيد حيث يعذبونه، حتى الإعدام ويخبرون أسرته وأقاربه أن هرب في اتجاه المغرب.
توصل عبد الله بمعلومات أكيدة أن العديد من الأسرى قتلوا داخل سجن يدعى (بوغار) وهو سجن جزائري يوجد قرب العاصمة الجزائرية، والأسرى كانوا من عدة أجناس، فالمئات إن لم يكن الآلاف من الجرائم الإرهابية وقعت داخل سجن بوغار.
يتذكر عبد الله جيدا المدعو حمزة وهو مالي الجنسية، حكا له عند إحالته على سجن الرابوني الجزائري، كيف ذاق أشكالا وأنواعا غريبة من التعذيب من طرف السجانين الجزائريين داخل سجن بوغار. أكد له رفقة أسرى آخرين، أنه لن يدخر جهدا في البحث عن وسيلة للهرب، مشيرا إلى أنه سيتظاهر بأنه أصبح واحد منهم ليتسنى له تنفيذ خطته. ولم يعلم عبد الله ماذا فعل هل هرب أم ضل معهم.
أنواع التعذيب كثيرة ومختلفة يتعرض لها المغاربة والصحراويين الذي يطلقون عليهم اللاجئين وكذا بعض الموريتانيين والماليين، فالعديد من الجنود والرعاة الماليين والموريتانيين قتلوا وتم التنكيل بجثثهم، وسرقت مواشيهم. كما أن معظم جنود البوليساريو هم موريتانيين، منهم من قتل في المعارك، ومنهم من قتل بأيادي البوليساريو بعد أن رفضوا الاستمرار معهم، كما تم إطلاق سراح بعضهم بعد سجنهم عدة سنوات مع التعذيب.
بالقرب مما يسمى لديهم بوزارة الدفاع، كانت هناك بناية بها عدة زنازين يشرف عليها ضباط جزائريين. كان عبد الله يسمع الصراخ تلو الصراخ طيلة الليالي والأيام، ولديه لائحة لبعض هؤلاء القتلة المجرمون، قال إنه لن ينساهم ما حيى. ويتعلق الأمر ب: عبد الودود والمحفوظ ولد البرناوي، ومحمد سالم الملقب ب(طلزار)، والعلالي، وشقيق إبراهيم غالي وزير الدفاع السابق اسمه علي ولد المصطفى والمدعو برشيد …
كان القتلة يرغمون الأسرى المغاربة على حمل جثث الضحايا من عدة أجناس عدة كلمترات، وحفر قبور لهم ودفن الجثث. كانوا يعدمون الحمقى والذين لم يعدموهم هم الذين لديهم أرقام لدى هيئة الصليب الأحمر الدولي، ومن استعصى عليه العمل أعدموه.
المخابرات الجزائرية تستقطب الجالية المغربية الصحراوية بأوربا للعيش مع البوليساريو
صادفت بعض من الجالية المغربية الصحراوية الذين تم الضحك عليهم بعد أن تم إغراءهم بجنة بوليساريو الوهمية وإمكانية الفوز بمناصب سياسية كبيرة فور استقلال الكيان المزعوم. فسجن الرشيد داخل ما يسمونه بمخيم السمارة، والذي يوجد بالجنوب الشرقي لتيندوف، من أخطر وأرهب سجون بوليساريو، يصله فقط مدير أمن الجبهة والمقربون له، الآلاف من السجناء قتلوا داخله من مختلف الأجناس، وخصوصا الجالية المغربية الصحراوية المكونة من المهاجرين المغاربة ذوي الأصول الصحراوية الذين يعيشون بأوربا، المخابرات الجزائرية نشطت في هذا الاتجاه، كانوا يغرونهم بضرورة الانضمام إلى الشعب الصحراوي الذي يطالب باستقلاليته، وبالمناصب وبأن الفرج قريب وأنهم مثقفون وأوفر حظا للحصول على مناصب كبيرة داخل الدولة المزعومة، وما إن يدخلونهم إلى المخيمات حتى يفرقون بينهم وبين أسرهم، ويعمدون إلى تشغيلهم في الأعمال اليومية الشاقة، ويسطون على سياراتهم وأجهزتهم الالكترونية وأرصدتهم داخل البنوك الأوربية، الأرز غذاء كل المهاجرين، ومعظمهم لا يتحملون الأعمال الشاقة وانعدام التغذية، وإن أحسوا برفض أحدهم يقتلونه، كما يقتلون أبنائهم أو يهجرونهم إلى حيث لا يدرون. ولو بحث المغاربة الصحراويين عن أسرهم المتواجدة بالديار الأوربية يجيبونهم بأنهم قرروا المكوث مع البوليساريو. فأصدقائهم بأوربا يعتقدون أنهم التحقوا نهائيا بالبوليساريو وعائلاتهم بالمغرب لا يدرون عنهم شيء.
من المشرف على عملية التعذيب والقتل داخل سجن الرشيد ؟
عمليات التعذيب والإعدام يشرف عليها داخل سجن الرشيد المدعو (البطل)، وكان وزير الإعلام بوليساريو، قتل بيديه وأمر بقتل المئات من الأسرى مغاربة وماليين وموريتانيين… وهو الآن فاقد البصر، وقد فقد بصره في إحدى المعارك التي دارت سنة 1983 ، حين هاجم كومندو من البوليساريو يتزعمه الوزير، الجنود المغاربة بالحزام الأمني ، تعرض خلالها لحروق في عينيه.
كيف كان يتم تواصل الأسرى بالعالم الخارجي؟
لم يكن المدنيين محظوظين مثل الجنود الأسرى بحكم أن بوليساريو تعترف بوجود بعضهم داخل سجونها، على أساس أنهم أسرى حرب، لذا فقد كانت عناصر البوليساريو تعمد إلى إخفائهم عن أنظار وسائل الإعلام والجمعيات المدنية الأوربية والصليب الأحمر الدولي، كانوا يعانون الوحدة القاتلة بسبب الانقطاع التام عن العالم الخارجي، فالجنود الذين اعترفوا بوجودهم كأسرى كانوا يتوصلون ويراسلون أهاليهم ولو أن المراسلات كانت وفق قوانين ومساطر تتفنن في إبداعها البوليساريو للحفاظ على ماء الوجه أمام الرأي العام الدولي.
مرت السنين، وكان بعض ممثلي الإعلام الموالية لهم من المعسكر الشرقي حينها (ألمانيا الشرقية سوريا يوغوسلافيا إيران، كوبا يوميا، ليبيا موريتانيا، اليمن الجنوبية حينها..)، يلجون السجون ، إضافة إلى جمعيات غير حكومية اسبانية وبعضها ايطالية والسويدية…
كانوا يبعدون المدنيين لكي لا يرونا..ويمنحون العسكريين شفرات حلاقة لاستقبال الزوار. شفرة واحدة لكل عشرة أسرى، ومطلوب من كل أسير حلاقة الذقن والشارب والشعر، علما أن الشعر مليء بالغبار و القمل، ومن خالف يلقى العذاب.
بدئوا بعدها يقدمون المدنيين وعددهم (14)، على أساس أنهم عسكريين. ومنعوهم من الكلام مع الصحافة الأجنبية. كانوا يرغمون الأسرى الجنود على كتابة الرسائل وفق جدول: أنا فلان أقيم عند الصحراويين كضيف ولو أطلقوا سراحي لن أعود إلى المغرب، إلى أن يستقيلوا بأرضهم، وأنا أدعمهم … ويضع الجندي عنوانه. وكان العديد ممن لا تعجبه الرسالة يمدهم بعناوين خاطئة. تبعث الرسائل إلى أسرهم بالمغرب عن طريق مكتب مخابرات جزائري بفرنسا. يعاقبون كل صاحب رسالة تم إرجاعها لسبب خطأ في العنوان، كما كانوا يأخذون بعض السجناء ويلقنوهم عبارات تسيء إلى بلدهم المغرب، يرغمونهم على التفوه بها في وجه ممثلي وسائل الإعلام.
كيف تم التعريف بوجود المدنيين وربط الاتصال بذويهم؟
تعرف عبد الله إلى جندي مغربي أسير يدعى عبد الله القاسمي من سلاح المدرعات ابن مدينة تاونات، ساعده كثيرا في إبلاغ صوت المدنيين إلى عدة منابر إعلامية ومنظمات دولية. كان عبد الله يكتب الرسائل ويبعثها له، إلى إذاعة فرنسا الدولية. وقد تمت قراءتها من طرف المذيعة فريدة موحى ، في إحدى نشراتها الخاصة حينها بإفريقيا. كما راسل جريدة العالم (لوموند)، وكذا هيئة الصليب الأحمر الدولي.. هذه الأخيرة التي ضغطت على البوليساريو حتى اعترف بوجود مدنيين معتقلين لديه، وكانت بداية فك العزلة عليهم. حيث بدئوا يراسلون ذويهم عبر رسائل مكتوبة، وإن كانت لا تعبر عن حقيقة ما كانوا يعيشونه.
علم عبد الله أن والده توفي، وأن أخته الصغرى تزوجت وأنجبت. كما علم أن والده ذاق كل أنواع الفقر قبل الرحيل الأخير.
توصل عبد الله برسالة غير متوقعة، موقعة من طرف خطيبته وأبيها سنة 1995. سألا عن أحواله، وتمنيا عودته سريعا. رسالة بقدر ما أسعدته حيرته. فخطيبته كانت تخاطبه بعبارة (أخي). وظن أنها تزوجت وأن حلم الصبا تبخر في الفضاء. ولم يستطع أن يسألها عن وضعها الحالي، خوفا من أن تكون متزوجة، وأن يضعها في موقف حرج مع زوجها.
أسوء أيام السجن
يرى عبد الله أن أسوء أشهر السجن هي تلك التي قضاها منذ اختطافه وحتى إحالته على سجن الرابوني، فهو مجرد مدني، وليس جنديا محاربا. كان يتوقع اعتقاله أو قتله في أية لحظة. مدنيا في أوائل سنوات شبابه، كان عائد إلى منزله هاربا من حرارة شمس مدينة طاطا، ليجد نفسه مختطفا يتذوق كل أنواع التعذيب، فوق أرض ليس وحدها الحارقة. ومحروما من كل الأحلام التي عاش في طفولته يرسمها.
التعذيب لم يتوقف بسبب أو بدون سبب، مؤامرة مزعومة للاحتلال على الأسلحة والهروب يتهم بها بعض الأسرى، فتنطلق عملية التعذيب لتشمل الكل، من تخويف، إلى إرغام البعض على الاعتراف بها. ومن طلب الموت المستعجل، تلقى العذاب الطويل، وغاب الموت.
و بلغ أقصاه خلال حين حرم أسرى سجن الرابوني من الغذاء الأدنى (الخبز أو الأرز). سنتين من التجويع بعد سنوات من التغذية غير المتوازنة، عاشها السجناء مدنيين وعسكريين على حد سواء بدون قطعة خبز أو حبة أرز. يوميا يعمد طباخو السجن إلى ملء براميل الوقود الفارغة من فئة 100 أو 80 لترا، بالماء والدقيق الفاسد الذي يفرغونه من أكياس كتب عليها (مطاحن سيدي بلعباس)، وفي بعض الأحيان يضيفون إلى الوجبة كثل من الزبدة الفاسدة التي تنفجر علبها بفعل الانتفاخ قبل إفراغها داخل البراميل، ليتم طهي الوجبة المتعفنة، وتقديمها على صحون من الألمنيوم. صحن لكل عشرة سجناء، يشربونه باستعمال علب السردين الفارغة الملقاة هنا وهناك. فقدوا حينها الإنسانية، كانوا يتسابقون من أجل نيل أكبر كمية من السائل المتعفن.
أصيب العديد من المغاربة الأسرى بعدة أمراض كان أبرزها داء الحفر والذي يأتي بسبب الانعدام التام لفيتامين سين، حيث يتعرض جسم الإنسان لنزيف دموي داخلي وتبدأ العروق في التقطع، وعادة ما تصاب الأرجل في البداية، وينطلق معها المرض ليشمل باقي الجسم، وتوفي العديد بعد أصابتهم بالداء، فيما ضلت آثار المرض واضحة على الباقين. وكان عبد الله من بين المصابين. لكن شاء الله أن تكون مناعته أكثر قوة. فمنهم من بصق أسنانه وأضراسه.عندما كانت وجبة الأرز، كان هناك من يستعمل يديه ويضع الأرز بين صدره ولباسه الداخلي، أو بين كفيه ويهرب ليتمكن من سد جوعه.
أصيب الأسرى بالربو والخوف والحمق والشيخوخة المبكرة والانهيارات العصبية، والروماتيزم، وأمراض القلب، وأمراض الجهاز الهضمي التي لم يسلم منها أي أسير. 2400 أسير مغربي ضمنهم 500 كانوا بسجن الرابوني، أزيد من عشرين في المائة منهم كانوا داخل سجون ومراكز على مشارف العاصمة الجزائرية. كانوا سجناء لدى الجزائريين ولعبة البوليساريو .
مغاربة تحت طائلة التعذيب اليومي وأصبحوا موالين للبوليساريو
قال عبد الله : (لن أكذب عليك، فمع استمرار التعذيب استجاب بعض العسكريين المغاربة لنزوات البوليساريو، وأصبحوا عملاء لهم، وأنا لن أتردد في ذكر أسمائهم ( ذكر للمساء هوية البعض منهم )، والعديد منهم تم الإفراج عنهم مؤخرا). تقارير يومية تكتبها أيادي مغربية لمغاربة يشاركون المحتجزين المبيت فقط، فيما تم إعفائهم من الأعمال الشاقة والتعذيب اليومي.
بداية التأريخ لجحيم السجون الجزائرية
بعد حوالي سنتين من ولوج عبد الله سجن الرابوني، استرجع شيئا من ذاكرته كإنسان، ورغم استمرار التعذيب اليومي، فقد قرر أن يدون معلومات عن الأسرى المغاربة مدنيين وعسكريين وخصوصا القتلى والفارين وعن القتلة والخونة والأحداث التي يجد فيها نوعا من الاستثناء والغموض وعن التجاوزات … كتب هوية المغاربة الذين تم قتلهم أو كانت وفاتهم نتاج لأمراض والتعذيب. وكذا أرقامهم وعناوين سكنهم إن أمكن، ورواتبهم العسكرية وسبب وفاتهم وتواريخ اعتقالهم..
كانوا عبيدا مع رتبة عالية في القمع والتعذيب، سخروا لأداء كل أنواع الخدمات القدرة والشاقة. وتدبر عبد الله بفعل تنقله داخل السجن على قلم حبر قام بتقطيعه إلى نصفين لكي يتمكن من إخفاءه. واستعمل أكياس سماد البناء (الكاخيط ديال السيما)، وكان يستجمع المعلومات ويعتمد على ذاكرته القوية في حفظها لعدة أيام. ويختلي بنفسه عند قضاء حاجته البيولوجية. فيكتب المعلومات على ورق (كاخيط السيما )، لكي لا ينتبه إليه الحراس. لأن كل من وجد لديه قلما أو ورقة يتعرض لعقاب أليم. ويذكر أن أسير مغربي كان يخبئ بين أمتعته ورقة من كتاب لأغاني أم كلثوم، بها مقطع لأغنية لها أعجبته. ولما عثر الحراس على الورقة، جلدوه حتى أغمي عليه.
قال عبد الله إنه كان في كل مرة يختلي بنفسه بعد استئذان الحراس. يتوارى في خلاء بالسجن، حيث يكتب المعلومات باللغة العربية، ويدس الورقة رفقة باقي الورق داخل كيس بلاستيكي كان يحفر له حفرة على طول واد جاف قرب جدران السجن…
استمر في كتابة المعلومات لمدة تقارب الثماني سنوات، إلى أن تم الاعتراف بهم كسجناء مدنيين مختطفين بضغط من منظمة الصليب الأحمر الدولي.
مرت السنون، وبدئوا يكسبون ثقة عناصر الأمن داخل السجن، وخفضت المراقبة اللصيقة التي كان يفرضها الحراس بطلب من قيادتهم كلما جاءوا زوارا للسجناء. ولم يكن يفكر حينها بأنه سينجز كتابا أو يسرب معلومات إلى خارج السجن، كانت فكرته أن يحتفظ بما وقع له ولباقي أبناء بلده حتى موعد الإفراج عنه.
الاحتكاك بالجمعيات الأجنبية والإعلاميين الوافدين على سجن الرابوني
مع المدة أصبحت لدى المدنيين زمالة مع بعض الحراس وأصحاب الأمن، الذين أصبحوا واثقين من أنهم لن يحاولوا الهرب أو التجسس. فالحراس كانوا هم كذلك يعيشون العذاب بسبب أوامر أصحاب الأمن الذين كانوا يمنعونهم من الحديث الثنائي أو الانفراد بالسجناء إضافة إلى المراقبة الأمنية الصارمة عليهم. ومن الحراس من أفشى لهم العذاب والنظام المجحف الذي يسري عليهم. وأكدوا لهم أنهم ضد ما يعاني منه المحتجزين.
مجموعة من الأطباء تابعين لمنظمة الصليب الأحمر الدولي يأتون سنويا من أجل مراقبة ومعالجة الأسرى المرضى، حاول عبد الله الاجتماع يبعضهم، بعد أن بدأت أصوات أجنبية تندد بمعاناتهم. خفض التعذيب وبدأ نوع من الترفيه تلفاز(قناة الجزائر فقط)، وراديو (إذاعة بوليساريو)، أغاني رابح درياسة الذي كان يتغنى بانتصارات الجبهة وفرار الجنود في الوقت الذي كان درياسة ضيفا بالدار البيضاء يحيي سهراته والجماهير المغربية تتدفق لمشاهدته.
جمعيات هولندية فطنت إلى كذب البوليساريو، كانوا ينتظرونهم بمدينة تيندوف حيث يقلونهم على سيارات لوندروفير، يتجولون بهم داخل التراب الجزائري عدة أيام حيث التلال الرملية. ليتوقفوا على أساس أنهم وصلوا إلى أرض الجبهة المستقلة، بئر لحلو أو السمارة، ويظهرون لهم السجناء المغاربة.لكن ممثلو تلك الجمعيات كانونا يحملون خرائط وبوصلات وفطنوا إلى أنهم لازالوا داخل التراب الجزائري، فقاطعوهم.
طبيب فرنسي جراح العيون قبل دعم قضية عبد الله
كان عبد الله يقترب من أعضاء الجمعيات بعدما خفض الضغط الأمني وتجاوب الحراس معهم. حيث تعرف سنة 1997 على طبيب جراح فرنسي يدعى مشيل أيستر. وهو طبيب العيون كان ضمن الطاقم الطبي للصليب الأحمر الدولي. كما كان يشغل منصب رئيس جمعية (ايس أو ايس) لمرض العمى. أطلعه على مأساته كمدني رفقة أربعة عشر مدنيا معتقلين داخل السجن. وكيف ومتى وأين تم اختطافه. فأكد له الطبيب أنه مستعد للدفاع عن قضيته. كان يجري عمليات جراحية للسجناء، واقترح عليه أن يمده ببعض المعلومات ليوصلها إلى جهات يمكن لها أن تدعمهم. وافق الطبيب الذي كان يصاحبه يوميا طيلة فترة إقامته، وبعد أن كلف بمساعدته لاستقبال المرضى. أوضح له أنه كتب عدة تقارير باللغة العربية، وأن عليه أن يجد مترجما لها، فقبل مساعدته.
عاد عبد الله فرحا إلى الحفرة التي خبأ بها الأوراق محشوة داخل كيس بلاستيكي، بعد عدة أيام من التربص، وبعد أن تمكن من مراوغة الحراس. لكن الصدمة التي تلقاها مباشرة بعد إخراج الكيس كادت أن تذهب بما تبقى من عقله. فالأوراق التي عاش خلال ثمان سنوات بكتب فيها ويخبأها داخل الكيس، تعرضت لرطوبة الشتاء وحرارة الشمس، فأصبحت الأوراق كحبات الرمال.
عاد خاوي الوفاض بنفسية منحطة، ليخبر الطبيب الذي كان سيسافر في اليوم الموالي إلى بلده. فتألم الطبيب لحاله، وأكد له أنه مستعد للعودة خلال السنة المقبلة 2002. وطلب منه محاولة الكتابة من جديد. وأعطاه قلم حبر بمصباح صغير في مقدمته يساعد على الكتابة في الظلام. كما قام بإعطاء رشاوي(قناني خمور رفيعة وعطور…) للحراس ومسؤولي الأمن داخل السجن من أجل الاعتناء بعبد الله، على أساس أنه ممرض بارع. وعهد إليه صيانة الأجهزة والفضاء المعد للفحص، ليطمئن على أنه لن يتعرض لأي أدى أو انتقال إلى سجن آخر.
وعده عبد الله الطبيب بأن يعيد كتابة تفاصيل كل ما جرى ويجري، باللغة الفرنسية، ليسهل عليه عملية الاطلاع واتخاذ القرارات الصائبة. تمكن من الحصول على أوراق بيضاء بعد أن خف ضغط المسؤولين الأمنيين، كما استطاع أن يحصل على صورة له بعد أن قام برشوة أحد الحراس بمبلغ خمسين دينار جزائرية. وكتب عليها بخط يديه رقم الصليب الدولي الخاص به هو3458.
عاد عبد الله لكتابة المعلومات، ووضع في الحسبان أن ما يكتبه سينشر ذات يوم وعليه أن يكون دقيقا في معلوماته. بدأ يكتب ليلا، كما اختار أن يبقى منعزلا حتى من أقرب صديق له ، التطواني الذي اختطف صحبته سنة 1980 ، وفرق بينما بوليساريو. ثم التقاه سنة 1985، وافترقا ليلتقيا من جديد سنة 2000. كان يحفر في المكان الذي ينام فيه، ويخبئ الأوراق، بعد سنة كتب حوالي 100 صفحة.
بداية تسريب ما يجري ويدور ..
كانت فترة جد عصيبة بالنسبة لعبد الله، فقد عاد الطبيب في السنة الموالية 2002، وطلب حضوره بالاسم من أجل مساعدته، وبرر لهم ذلك بكونه أخذ التجربة وأنه أتقن اللغة العربية والفرنسية، وسيكون خير رابط بينه وبين الأسرى المرضى. لكن الرسائل التي سبق وسربت بمساعدة الجندي القاسمي، والتي كانت السبب في تعرف هيئة الصليب الأحمر الدولي على أن سجن الرابوني يضم سجناء مدنيين، جعلتهم يشكون في أمره. ورفضوا طلبه، وأحالوه على العمل كمساعد لطبيب نفساني سويسري اسمه جوزيف ميرنيير داخل غرفة، بها باب مغلق يؤدي إلى غرفة أخرى، جعلوا داخلها جواسيس يتنصتون عليهم.
أشار عبد الله للطبيب بوجود جواسيس، فقرع الباب المغلق واستنكر العمل، وطالب بغرفة أخرى فرفضوا، وتفاقم الوضع مما جعل الطاقم الطبي يتوقف عن العمل لمدة يومين، وزاد شكهم في عبد الله. فجاءه المدعو (ولد كردلال)، مجرم سفاح يتكلم بالدارجة واللهجة الجزائرية والفرنسية، وأمره بعدم الخروج من الزنزانة، قبل أن يتراجعوا ويقبلون بطلب طبيب العينين بشرط أن يكون معهم حارس أمني، وأعادوه للعمل معه.
كان حارس أمني شاب. سأله عبد الله إن كان له قريب مريض بالعيون، فقال إن أمه مريضة، فحدثه عن حالتها، ونقلها إلى الطبيب. فوصف لها أدوية أعطاها للحارس، وأمده بنظارات القرب فازدادت ثقته بهما. مدة إقامة الطاقم الطبيب امتدت على خمسة عشر يوما. انتهز عبد الله فرصة خروج المسؤولين وغفلة الحراس يوم الجمعة، ووصله خبر اعتداء أحد الحراس على أسير من مدينة اخنيفرة، فاصطحب الطبيب الذي كان يحمل آلة تصوير، حيث تمكن من تصوير الاعتداء خلسة.
استمر في الكتابة حتى موعد سفر الطبيب، وأعطاه الأوراق كلها، بعد أن دسها وسط منديل له.
تسريب لائحة المعدومين وخريطة مقبرة جماعية إلى جمعية فرنسا الحريات
في الصورة : من اليمين الى اليسار .. دانيال بوبيون فرنسية، عبد الله قاسمي جندي اسير، عفيفة كرموس فرنسية من اصل تونسي ورئيسة وفد جمعية فرنسا الحريات التي حلت بتندوف، عبد الله لماني. الفرنسيتين هما مندوبتين من طرف الجمعية الفرنسية وهما من حررا التقرير الذي كشف عن جرائم الجزائر والبوليساريو الصورة سنة 2003
خلال شهر ماي من سنة 2003، حلت فرنسيتين ممثلتين لجمعية فرنسا الحريات بسجن الرابوني. حيث يوجد المئات من الأسرى ضمنهم 14 مدنيا.كان يصطحبهن مسؤولا أمنيا يدعى محمد ولد الميلودي، قدم للأسرى السيدتين مبعوثتي الجمعية. جاءتا للاستماع إليهم، وابتعد المسؤول الأمني، تاركا الفرنسيتين رفقة مغربي أسير أصبح عميلا للجبهة ينقل لها تقارير يومية، مقابل التغذية وإعفائه من التعذيب والأعمال الشاقة اليومية. ويتعلق الأمر باولين ديبويسان بالناطقة الرسمية باسم الجمعية وعفيفة كرموس تونسية الأصل وفرنسية الجنسية.
في الصورة: عبد لماني والى جانبه فلورونس سيشاند ممثلة الصليب الأحمر الدولي بسجن الرابوني الصورة التقطت سنة 1999
كان عبد الله حينها قد قضى 22 سنة من السجن، ولم يعد يفرق بين الحياة والموت. فخرج بين حوالي 600 أسير جالسين أمام الفرنسيتين. وقال لهما إنه مدني، اختطف من داخل أرض مغربية ليس بها نزاع. فردت عليه إحداهما بأنهما ستمران على كل واحد من السجناء وتستمع إليه بشكل منفرد. وسيقيمان لمدة أسبوع بالمنطقة.
بعد أيام طلبت الفرنسيتين لقائه، فصرح لهن بأنه واحد من بين أربعة عشر مدني مختطف، لا علاقة لهم بالحرب، وأن هناك جنود مغاربة كانوا معتقلين داخل سجن بوغار الجزائري، وأعطاهم أسماء بعضهم. ورفض الجندي المغربي لقاء الفرنسيتين والإفصاح عما عناه داخل السجن الجزائري. وصرخ في وجه عبد الله (أنا بالله والشرع معاك اخويا… أنا باغي نرجع حي لبلادي). وقبل صديقه التطواني أن يأتي معه ورفض المدنيون المتبقون الذين قالوا له (باغيين نرجعوا حيين ولم نعد نقدر على العذاب وقد كبرنا في السن).
خيروهم بين تسجيل تصريحاتهم أو تحريرها. فقبلوا بالتسجيلات. على أمل إنهاء مآسيهم. وقال إن الناطقة الرسمية بكت، ووعدتهم بأن توصل حقيقتهم إلى الرأي العام الدولي.
تم تسجيل كلام عبد الله بالفرنسية و كلام صديقه بالاسبانية. وأعطاهما لائحة المعدمين التي تضم (رقم الصليب الدولي إن توفر أو الرقم العسكري للعسكريين وهوية القتلى…)، وهي اللائحة التي نشرت فيما بعد ضمن تقرير الجمعية سنة 2003 بها 142 شخص معدم مدنيين وعسكريين. كما أعطاهما رسما خرائطيا خاص بمقبرة جماعية قرب سجن الرابوني بها 45 مغربي مقتول بلوائح وأسماء المعدومين وعشرة مقابر مجهولة.
كان عبد الله يسجل بطاقة معلومات عن كل أسير قتل، كما كان يسجل كل الحوادث البارزة التي وقعت داخل سجن الرابوني وكذا في الجوار. وكان يستقي معلومات من المغاربة الأسرى الذين عملوا في عدة أمكنة أو أتوا من عدة سجون ومراكز وكتائب مختلفة، أما فيما يخص كيفية حصوله على الرسم الخرائطي للمقبرة. أوضح عبد اله إنه تطوع حينها لبناء النصب (الشواهد) الخاصة بالقبور، بعد أن عزمت الجبهة على وضع مقبرة بمواصفات تقيها الانتقادات الدولية، وبعد أن شاع خبر دفن الجثث في أماكن مختلفة من التراب الجزائري.
أكد عبد الله أنه : لو قامت الأمم المتحدة بعملية تمشيط وفحص لباطن التراب الجزائري، حيث معاقل البوليساريو، لعثرت على الآلاف من الجثث، ولو حاول الجزائريون ومعهم البوليساريو إخفاء الجثث، فإنهم لن يستطيعوا بحكم جهلهم لأماكنها. وبحكم أن عمليات الدفن كانت عشوائية.
تطوع عبد الله لوضع الشواهد على القبور، وكان ببحث بعلمهم عن معلومات تخص الموتى يدونها في أوراق، يخفيها عن أنظارهم. لم يكن هناك اهتمام بما كان يعمله. فالمسؤولين الأمنيين يوفرون له الاسمنت والرمال وكل متطلبات البناء والصباغة. وكان يعمل داخل المقبرة البعيدة عن السجن تحت مراقبة أحد الحراس الذي همه الوحيد هو منعه من الفرار ليس إلا.لم يكن عبد الله يتوقع بأن الجمعية ستنجز تقريرا تعتمد فيه على ما توصلت به من معلومات. فالفرنسيتين وعدوه بالعمل على فضح ما يروج داخل السجن.
صدور كتاب بالمغرب وعبد الله أسيرا
كانت ليلة يوم 26 يونيو من سنة 2003، حين علم من صديقه التطواني خبر صدور كتاب يحكي عن واقع السجون الجزائرية. أشارت إليه القناتين التلفزيونيتين المغربيتين. الكتاب يحكي باسم عبد الله عن معانات الأسرى المغاربة. وغلافه يحمل صورة لعبد الله ورقم الصليب الأحمر الخاص به. كان صديقه المريض لا يفارق الشاشة التي علقها بوليساريو داخل السجن. فأدرك أن طبيب العيون أوفى بوعده. في حدود الواحدة صباحا أطلق البوليساريو الصفارة، فتجمع السجناء كالعادة من أجل إحصائهم وتعذيبهم. وعادوا إلى النوم. وعند الثانية صباحا جاءه أحد الحراس و أيقضه (كان حينها مستيقظا يترقب المصير المظلم). اصطحبه إلى إدارة الأمن العسكري حيث يتعرض كل الأسرى بمختلف جنسياتهم لأقصى العذاب. وعند مدخل الإدارة رأى أكبر مجرم سفاح لدى البوليساريو وهو المدعو أمبارك ولد خونا، متخصص في التحقيقات والتعذيب رفقة خمسة من أصحاب نفس منهجيته، انتظر وهو يدخل أنه سيتذوق كل أنواع العذاب قبل أن يتم استفساره عن الكتاب…
بدأ يسأله… ولا أحد ضربه.. فتأكد أن الكتاب الذي صدر بين أيدي الرأي العام الدولي أحرجهم، وأنهم لن يعذبوه.
سأله كيف أخرجت الكتاب. فأجابه باستغراب (عن أي كتاب تتكلمون وكيف بإمكاني أن أكتب سطرا وسط الحراسة المشددة وكيف سأتمكن من تسريبه….). أنكر وضحك في بعض الفترات… فعاد وسأله.. ألم تر ماذا أذاعا القناتين المغربيتين ؟ .. لكنه أنكر..وتابع السفاح: سأمهلك 24 ساعة، وبعد لن تعيش… لكن ما وقع أنهم أطلقوا سراحه عند الفجر ليعود إلى السجن.. وتابعه بكلمة جزائرية (روح ).
حل اليوم الموالي ولم يقع شيئا، وانطوت الأيام بدون أن يحصلوا على أي شيء، وبعدما أقنعهم بأن لا يد له في طبع الكتاب وأن صورته وضعت على الغلاف لكونه مدني من بين 14 مدني، وأصحاب الكتاب هدفهم تشويه سمعتكم فقط. وأنه لا يدري من أين حصلوا على الصورة .
الكتاب كان يحمل رقم عبد الله المكتوب بخط يده، ولم ينتبهوا إليه والخرائط المرسومة داخل الكتاب هي بخط يده. كانت فرحة العمر هي فرحة صدور كتاب له بالمغرب عن حياته ومعاناته .
خلال شهر يوليوز2002 جاءت الرسائل وزعت على الأسرى، ولم يتوصل بأية رسالة.
في الغد نادى عليه السفاح امبارك، وطلب منه بالاسم أن يدخل وقال له: جاءتك رسالة، فرد عليه بأنه لم يستلمها. فأمده بالرسالة، فإذا هي من الطبيب الذي أعطاه التقرير.
كان السفاح قرأ محتوى الرسالة، فضل يتابع حركات وجه عبد الله ورد فعله وهو يقرأها. وجد عبد الله أن الطبيب الذي كان قد نبهه بعدم إعطاءه صورته لنشرها على غلاف الكتاب. يقول له : عزيزي عبد الله، من صديقك أتمنى أن ألقاك في المغرب، و أخبرك أن كتابك تم طبعه، وقد وجدته رائعا جدا، وأنا معجب بشجاعتك، وقد أعجب بك العديد من الزملاء والأصدقاء. …
كان عبد الله خائفا من سؤاله بعد نهاية الرسالة، فحاول إعادة قراءتها…فقال له : خذ نظارتي واقرأ جيدا الرسالة.
هل انتهيت..نعم شكرا..أعطيني الرسالة… ستبقى لدينا في الأرشيف… انصرف..
وفي الغد جاءه بورقة وقلم وطلب منه كتابة : أنا الموقع أسفله لم يسبق لي أن كتبت أي كتاب أو سربت أية معلومات من داخل السجن.. ووقع عليها… وعندما انتهى أخذها بغضب فقطعها نصفين، فاضطر إلى إعادة كتابتها على ورقة أخرى…
جمعية فرنسا الحريات تنشر تقرير عبد الله
جاء نشر التقرير على موقع الجمعية في الانترنيت ليطلق رصاصة إضافية في نعش المرتزقة بعد رصاصة الكتاب الذي يحكي عن معانات الأسرى المغاربة وضمنهم المدنيين.
لم تمض سوى يومين على نشر الكتاب، حتى جاء خبر التقرير الذي نشرته جمعية فرنسا الحريات والذي يضم لائحة 142 قتيل مغربي داخل السجون الجزائرية وخريطة لمقبرة جماعية تضم 45 جثة ضمنها عشرة مجهولة الهوية.
سألوا عن الأسرى الذين تحدثوا إلى ممثلتي الجمعية، فتأكدوا من إن عبد الله وراء التقرير، وتأكدوا أكثر لما علموا أنه هو من تطوع لصنع شواهد القبور وكتب عليها هويات الموتى. بمساعدة أحد السجناء. كان يبني الشواهد ويذهب بها إلى المقبرة المجهولة خارج السجن، وكان بكتب بخط يديه. والقبور لازلت شاهدة على صحة ما يقول.جاءه السفاح امبارك، وتحدث إليه باعتباره الفاعل، لكنه لم يستطع أن يعمل معه شيئا وانصرف.
الإفراج عن المدنيين وبرودة الاستقبال بمدينة اكادير
انتظر عبد الله يوم فاتح شتنبر من سنة 2003 حيث تم الإفراج على 14 مدني معتقل رسميا، وهو ضمنهم. وأكد عبد الله أنهم لازالوا يحتفظون بأسرى مغاربة عسكريين ومدنيين داخل مراكز ومناطق سرية.
توصلوا قبل يومين من الإفراج عنهم، بالنبأ من طرف حراس السجن. لم يفرح. ليس لأنه لم يكن يود الرجوع إلى بلده، ولكن لأنه فقد شهية الفرح. أخذوه من بين 242 سجين عسكري ومدني مسجلين في لائحة المفرج عنهم. وأوصلوه إلى إدارة أمن البوليساريو. حيث قاموا بالتقاط صور له. كان حينها بلباس عسكري جزائري ككل المفرج عنهم، ثم أعادوه إلى حيث باقي المفرج عنهم الذين كانوا في انتظاره داخل الشاحنة. وجد صديق التطواني يبكي. فقد توقع أن يكونوا قد قتلوا صديقه. أخذوهم إلى مكان حيث أعيد تصويرهم بالفيديو من طرف جزائريين، وهم يتكلمون عن هوياتهم.
في الصباح الباكر، رحلوهم إلى مرفق آخر، مرروهم عبر مسلك مغلق ضيق، من أجل تفتيشهم، الواحد تلو الآخر من طرف ضباط جزائريين. وسلموهم ألبسة مدنية. وجدوا أمامهم صحافيين من الجزائر واسبانيا، ومسؤول ممثل للصليب الأحمر الدولي رفقة أطباء الصليب.
استقبلتهم لجنة الصليب الأحمر وسألوهم بشكل انفرادي سؤالا غريبا : هل ترغب في العودة إلى بلدك المغرب أم تود طلب اللجوء إلى دولة أخرى ؟. فكانت أجوبة المغاربة كلها تكتسي نوع من الغرابة والغضب لدرجة أن البعض كاد أن يعتدي على ممثل الصليب…. بكوا… وتألموا كثيرا.
ركبوا على مراحل على متن حافلتين من مقر ما يسمى عندهم بوزارة الدفاع في اتجاه مطار تيندوف. كان عبد الله ضمن المجموعة الثانية التي احتفظت نوعا من صحتها، نقلوا على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الاكرانية، اكترتها منظمة الصليب الأحمر الدولي إلى مطار اكادير العسكري.
فرحة بلقاء الحبيبة الأهل
كانت أول فرحة لعبد الله، ولو أن شهية الفرح افتقدها منذ عقود، عندما علم أن الطفلة عائشة التي حملها بين ذراعيه لعدة سنوات، وكان أخا وصديقا لها رغم أنها ولدت وعمره ثلاثة عشر سنة، لم تنس وعودا قطعها معها بالارتباط، حالما تسمح سنها. لم يثنيها غيابه المفاجئ، واختفائه دون سابق إنذار، ولا علمها فيما بعد أنه اختطفت من طرف الكيان الوهمي للبوليساريو، ولم تفقد الأمل في أنه بعد شهر أو سنة…أو عمر طويل…سيعود للاقتران بها. راسلته هي ووالدها عندما كشف عنه الصليب الأحمر الدولي النقاب كباقي أسرى سجون البوليساريو. ولم تفصح له عن وضعها… عازبة تنتظره..أم زوجة تشفق على أخ وجار غدرت به السنون..أخته الصغيرة تزوجت وأنجبت… والده توفي.. فضن أن حبيبته عائشة لم يعد قدرها بجواره..
جاءت عائشة ووالدها لزيارته حيث كان بمدينة اكادير. كما حلت أخته وبعدها أحد أقربائه الذي كشف له عن قصة عائشة الغارقة في حب مختطف أسير… وأكد له أنها رفضت كل العرسان الذين تقدموا لخطبتها، وأن كل ساكنة حي طوما تعلم بأن عائشة تنتظر عبد الله الكهربائي الذي خرج في إجازة عمل، ليحال على جحيم دام لمدة 23 سنة.
بكى عبد الله حينها وتألم لما ألحقه بطفلة في مقتبل عمرها. ضلت تغازل الظهر لعله يقذف به إليها. تزوج عبد الله بعائشة صيف 2004 وعمرها 38 سنة وعمري 51سنة. ورزقا بعد إحدى عشر شهرا بيحيى، وبعد عامين برقية.
حزن لفقدان الشقة والرصيد البنكي
رغم كل ما قاساه عبد الله داخل سجون البوليساريو، ورغم برودة الاستقبال والتهميش التي واكبت عودته وإقامته في بلده. فإن الغدر الذي تلقياه من أحد أقربائه وبعض الجهات الأخرى أفقده شهية الحياة. قبل اختطافه سنة 1980 كان قد اشترى شقة في حي بورنازيل (شريت الساروت وكنت أدفع الأقساط شهريا وفتحت حسابا بنكيا). الشقة توجد بالعمارة رقم 17 رقمها ثلاثة باء، ما إن تم اختطافه حتى ترامت جهات مجهولة على شقته وسرقوا أمتعته التي كانت بداخلها. مع العلم أنه لازال يحتفظ بالعقد الخاص بالشقة.
ذهب سنة 2004 إلى وكالة بنكية (البنك المغربي للتجارة والصناعة بشارع للا الياقوت)، مصحوبا بدفتر شيكات كان يحتفظ به لدى أخته قبل اختطافه يوم 20 غشت 1980. لكنه فوجئ بكون حسابه بدون رصيد، وأنه تم سحب كل ما يملك من رصيد مالي (حوالي ثلاثة ملايين سنتيم ) سنة 1982. فاطلع موظف الوكالة بأنه مختطف من قبل أن يسحب المبلغ بسنتين، وأنه لم يفرج عنه إلا خلال سنة 2004. فنصحه برفع دعوة قضائية لاسترجاع أمواله. وكان أحد أقربائي اقترض منه أكثر من مليون سنتيم، حيث كان سيحج بيت الله، وكان دفتر الشيكات لدى أخته. وقالت أخته إن قريبه جاء وطلب دفتر الشيك من أجل إخراج النقود إليها. وعند عودته بعد فترة طويلة قال إنه لم يجد شيئا في الحساب البنكي.