الرئيسية / الاسرة و الطفل / نساء خارج التغطية اليوم … يرفضن التمدن

نساء خارج التغطية اليوم … يرفضن التمدن

 غير مقتنعات بقدرة الامتيازات والمكاسب الجديدة على منحهن حياة بديلة في مستوى أحلامهن البسيطة

 

رفضن التخلي عن حياتهن البدائية بكل طقوسها وقساوتها

نساء قرويات فرضن أسلوبهن وأخريات أرغمن على الإقلاع فكان مصيرهن المرض والموت

قد لا يصدق بعض النشطاء في عالم المرأة والطفولة  أن بلادنا لا تزال تحضن نساء من مختلف الفئات العمرية تتخبط في كل أنواع الفقر والتهميش داخل أسرها ومحيطها عن رضا واقتناع أو خوفا من تغيير أسوء …نساء غير مهتمات بالأيام الموسمية الوطنية والعالمية التي تزف إليهن  بعض الامتيازات  والمكاسب… غير مقتنعات بقدرة تلك المبادرات على منحهن حياة بديلة في مستوى أحلامهن البسيطة وطموحاتهن المتواضعة… فالمتتبع لمدى الاهتمام الذي توليه المؤسسات الرسمية والخاصة والمجتمع المدني للمرأة ومطالبها الملحة أمام جبروت الرجل وقساوة الطقوس والعادات التي أفرزت قوانين ذكورية، أهملت دور المرأة ومكانتها اللازمة.  يعجز عن إيجاد الخلل الذي يجعل نوعا من النساء يتحالفن مع الرجل سلوكا وأداء ويرفضن كل تجديد أو امتياز.

 

   

قد يكون السبب ترسيخ واقع (عدم الاقتناع والثقة) في عقولهن، كما تمتمت حفيظة زوجة وأم لثلاثة أطفال، والتي تبيع يوميا (الخبز والبغرير) أمام إحدى الحدائق بمدينة ابن سليمان: وعود كثيرة تلقيناها، صرح بها مسؤولون سابقون وتداولتها وسائل الإعلام، ولم يكتب لها أن تحققت، فكيف لي أن أقتنع بأن هناك من يريد حمايتي من زوجي، أو يضمن لي حقوقي… إنه كلام في كلام.

وقد يكون واقع وسلوك المرأة يحتاج إلى تغييرات قبلية تمكنها من استيعاب ما يدور حاليا في فضاء الأسر الجديدة ويحفزها للانخراط فيه، أو تكون طريقة التواصل معهن والتي تعتمد على الإطلالة الموسمية للجهات المكلفة بتنمية المرأة ودعمها ماديا ومعنويا، والتي تبتدئ زيارتها بعروض ومحاضرات ونصائح وتنتهي بتوزيع بعض الكتب والدقيق والسكر عليهن. غير ذات فاعلية وغير محفزة.

وبالمقابل فإن فئات أخرى من النساء  استفادت من قساوة الحياة ولقنتها دروسا تطبيقية، فشمرت على سواعدها  واختارت ولوج مجالات العمل موازاة مع الرجال، واستطاعت أداء مهامها في مختلف القطاعات العمومية والحرة بأمانة وإخلاص.     

 

 

قد يخطر ببالك لحظات وأنت تجالس أما أو جدة وتهنئها بمناسبة دينية أو وطنية أو من أجل مصلحة، أن ابتسامتك اللاذعة تشفي حنينهن لماض مضى دون استشارة، تحيك لهن بساط من أثواب العصر الجديد وتحثهن على ركوبه لمسايرة الحاضر والزحف نحو مستقبل لم يعد يعيرهم اهتماما، قد تسرف في مداعبتهن وتحيطهن حبا وحنانا وتثقل أقدامهن بقبلات ينتهي طيبها بمجرد فتح شفتيك عن جلدهن المزركش بخيوط الشيخوخة القاتلة، لكن القلب الذي عاش لعقود يحضن ويواسي في القلوب، لن يقبل أن يعيش في أيامه الأخيرة محضونا، وأن الجسد الذي ضل على احتكاك بالطبيعة وقساوتها، وعاش يعصر الصخر ليسيل منه قطرات من سوائل الدنيا من ماء ودموع وعرق، لن يقبل بالمغادرة الطوعية ولا بإحالته على التقاعد.

نساء وأغلبهن قرويات رفضن التخلي عن حياتهن البدائية بكل طقوسها، ورغم قساوتها، رفضن التخلي عن وسائلهن التقليدية في الطهي والتطبيب والتنظيف وتقديم الخدمات، فمنهن من فرضن أسلوبهن على أسرهن وكثير منهن أرغمن على الإقلاع عنها فكان مصيرهن المرض و الإذبال حتى جاءهن الموت البطيء.     

هؤلاء النساء (العواجيز) أمهاتنا وجداتنا…كان لنجمة المساء دردشة مع  بعضهن من زياديات ومجذوبيات ومذكوريات وقدميريات من إقليمي ابن سليمان والمحمدية  … ومثلهن عديدات من عالمنا القروي… رفضن عيشة الرفاهية و العطالة بين أبنائهن وبناتهن، شمرن على سواعدهن ورفعنا شعار العمل عبادة والعبادة سلوك حتى الموت… رفضن التمدن وأبين الخروج عن مدارهن القروي، ودعين بصوت واحد، لتسقط المطابخ العصرية، رفضن الإقلاع عن استعمال وسائلهن التقليدية في الطهي والصحة والتنظيف وجلب الماء…(ما أجمل الطاجين أو البقراج الأسود بالدخان والرماد وهو جالس فوق  الكانون  أو المجمر، وما أروع القمح وهو يهوي حبوبا في ثقب الرحى ليتحول بعد عدة دوران الرحى  إلى دقيق ويتساقط فوق ثوب أعد خصيصا لجمعه، وما ألذ العجين الدائري وهو يتحول الى خبز داخل فرن صنعته أياد بدوية بالطين والتبن…).   ليس لعدم تمكنهن من اقتناء أجهزة جديدة عصرية، ولا لأن بعضها يستعصي عليهن تشغيلها… ف(دادا أرقية) الشريفة المجذوبية التي شاخت وزادت شموخا، أبت أن تستقر داخل المجال الحضري، لتترك لعاداتها وتقاليدها فضاء تحييها من خلاله، فهي لا تحب التغذية الصناعية، والاستشفاء بالأدوية العصرية، تمشي حافية في معظم تحركاتها، ولها من السلوكات، ما يجعلها حبيسة انتقادات سكان المدن، ويحد من حركاتها… تفضل المشي ولو لآلاف الأمتار حافية عوض ركوب الحافلة أو سيارة.

لم يجد نفعا إصرار أبنائها الستة القاطنين بمنازل مختلفة بمدينة المحمدية، لجعلها تقلع عن ممارستها لحياتها اليومية، كانت تجيبهم دائما بكلمات عنيفة: (ياك كبرتكم وكلها يقد براسو). وقد تصل كلماتها لحد التهديد باستعمال حق الفيتوا في الآخرة( ها السخط ها الرضا، ولي بغا السخط يدخل لي في حياتي)، فما كان من أبنائها إلا الاستجابة لأمهم وتركها تنسج حياتها كما اشتهت.

 و(للا فاطنة الزيادية)،التي تسكن بمكان شبه حضري قرب مدينة ابن سليمان، تأبى استعمال الفرن العصري لطهي الخبز، لديها فرنها التقليدي الذي صنعته بيديها بالتبن والتراب، تردد طيلة جلساتها أمام فرنها أغاني ومواويل تحيي بها ذكريات الصبا ومغامرات وأمجاد بعض الشخصيات التي عاصرتها، تزيد من رغبتها في المكوث أكثر بجانب الفرن، تدخل بعصا من الخشب داخله وجذوع  و أوراق الأشجار وبعض النباتات اليابسة، وتنتظر حتى تشتعل  النار وتلقي بحرارتها على الفرن كاملا، لتدخل العجين الدائري (كريصات) فوق صفائح قصديرية، وتراقب جميع مراحل طهيه، قالت فاطنة في تصريح لنجمة المساء وهي تقلب الخبز : ليس هناك أفضل من طهي الخبز داخل فرن تقليدي، بعيدا عن ملوثات الغاز و تسممات الأجهزة العصرية، وتمنت أن تقيم كل أسرة فرنا مماثلا فوق سطح منزلها لتجنب أبنائها أكل الخبز العصري( خبز اليوم غا عجينة، دقة بطلة للمصارن والكرش).

ومن جهتها تأبى ( للا فاطمة القدميرية) مفارقة (عين الشعرة )  التي توجد على الحدود بين مدينة ابن سليمان والغابة، تأتي يوميا لتصبين ملابس العائلة وغسل الصوف ونشرها فوق الأعشاب المنتشرة بالمكان، ليس لفاطمة مشاكل مادية، لديها ابنا ميسور الحال، يسكن منزلا عصريا به كل مستلزمات الحياة من ماء وكهرباء  وآلة التصبين (غسالة)، لكن أمه اعتادت على التصبين بعين الشعرة، وأكد ابنها أنها تطلب من أبنائه وضع ملابسهم التي تكون في الغالب نظيفة، لتجد مبررا لزيارة العين المتدفقة وملامسة مياهها الطبيعية.

وإذا كانت أرقية وفاطنة وفاطمة فرضن أسلوبهن وطريقة عيشهن على أبنائهن وأسرهن، فإن العديد من النساء القرويات، اغتصبن في حياتهن التقليدية وأخرجن من عالمهن من طرف أبناء كبروا أو زوج قرر الهجرة إلى المدن، ليجدن أنفسهن بين جدران الحضارة يحتضرون، تركن فضائهن التقليدي البسيط بتركيباته، وأقحمن داخل عالم بدأ يفرض عليهن تدريجيا سلوكات جديدة ومهارات معقدة، جعلتهن عاجزات عن الاندماج والتعايش، وعجل من ذبولهن ومرضهن. قالت  (عمتي الضاوية) التي تركت منزلها بأولاد الطالب بمنطقة لاسيام بجماعة لفضالات بعد أن توفي زوجها واستقرت بالمدينة الخضراء تحت ضغط أبنائها : كم تمنيت العودة إلى منزلي بالبادية حيث الفضاء الطبيعي الواسع والحياة الهادئة(أتابع حركات الطيور والمواشي واستأنس بقضاء حوائجهم من تنظيف وتغذية. 

 وأكدت النساء القرويات أن مطبخ اليوم لم يعد مضيافا ومرحا للاستئناس، ولم تعد أجهزته رهن إشارة كل النساء، فقد أصبح ولوجه يتطلب كفاءات ومهارات لم تستطع بعض القرويات اكتسابها. ولم يعد الليل فرصة لاجتماع الأسر والحديث عن مشاغل اليوم وطرائفه والإعداد للغد وما قد يأتي به، لم يعد الأبناء  ينتظرون بلهف عودة الجدة أو الجد لسرد حكاية جديدة أو مدهم بنصيحة ممزوجة بالطرائف والمتع، فعلبة الفضائيات استهوت معظم أفراد الأسرة، وجعلتهم يدخلون في مقاطعة ليلية، وصراعات من أجل انتقاء القنوات، فيما أتت لعبة الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) على ما تبقى منهم، وجعلتهم مدمني التواصل عبر المسافات الطويلة، في الوقت الذي قل فيه التواصل بين الأقرباء والمجاورين.

فاطمة وارقية وفاطمة وعبرهن عديدات يوجهن نداء لرافعي شعار تعميم الحداثة والعصرنة، قلن فيه: دققوا في أسلوب عيشنا قد تجدوا أشياء غابت عنكم، وإن اقتنعتم بشعاركم، فاتركونا نعيش بسلام لأننا مقتنعات بأسلوب عيشنا وغير مستعدات لتغييره في آخر أيام حياتنا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *