لم يعد بإمكان رئيس الحكومة سعد الدين العثماني تحمل ما تفرزه النظارات الرمادية لبعض المتتبعين والمهتمين بالتنمية والتدبير المالي والإداري لحكومته. من عيوب ونواقص وانتقادات واحتجاجات للعمل الحكومي. وكأن الرجل ورفاقه في الحكومة لا شغل لهم سوى الاستمتاع بمكاتب ومنازل وسيارات الخدمة، واستخلاص رواتبهم الشهرية السمينة. واختلاق السفريات والتنقلات من أجل الرفع من قيم التعويضات المالية. في انتظار الرحيل والاستمتاع بأموال التقاعد المريح.
العثماني الطبيب النفساني، فشل في تحليل نفسية المغاربة، فضاعت عليه فرصة احتواء عقولهم، بتنويمهم مغناطيسيا إلى حين قضاء ولايته. خرج مؤخرا ليطالب المغاربة بترك النظارات الرمادية والسوداء، واقتناء نوع خاص من النظارات الشفافة، التي تظهر عمل الحكومة ومكاسبها التي يرى أنها لا تعد ولا تحصى. وبدا الرجل وكأنه مستعد للتعاقد مع شركة لصنع نظارته النموذجية، وتوزيعها بالمجان على المغاربة. حتى يسعدوا بحكومته التي أعيد تشكيلها مرتين دون جدوى. بعد أن شكلها العثماني أول مرة، في زمن قياسي وعدد أحزاب قياسي. تحالف بستة أحزاب سياسية منها الإسلامي واليميني واليساري والاشتراكي والشيعي. حيث لم يكن حينها لفقيه وحكيم حزب المصباح، الذي قرأ كتب الفقه والسيرة النبوية والتاريخ وعلم النفس، سوى البحث عن كتاب (كيف تشكل الحكومات في ظرف 15 يوما). لكي يتمكن من إفراز حكومة جديدة. أو التخلي عن مفاتيح رئاسة الحكومة. والإعلان الرسمي عن فشل الحزب المتصدر للانتخابات التشريعية في إيجاد حلفاء من داخل قبلة البرلمان.
لا أحد يشكك في قدرات العثماني على الاختراق السياسي. لكن بالمقابل فإن العديد ممن باتوا
يرون برامجه ومخططات مجرد اختلاق تنموي لا أثر له على المواطنين. قد يكون العثماني مميزا بقدرات الاستماع والتأني وامتصاص الغضب قبل الرد والتي يعود الفضل فيها لمهنة أبو قراط التي امتهنها قبل انحرافه عنها إلى السياسة. ولا أحد يشكك في أنه تلقى وعود الدعم والمساعدة. لكن واقع الحال يغني عن السؤال. وهو ما جعل الكل يعمل من أجل إلصاق الفشل الحكومي بالعثماني وحزبه، بمن فيهم الأغلبية التي تشاركه كعكة الاستوزار.
كنا نأمل أن يفطن العثماني إلى أن 34 مليون مغربية ومغربية،ليسوا في حاجة إلى علاجه النفسي، ولا إلى إخبارهم باختراعه المذهل عن كيفية (تشعل الضوء) و(تكب الماء). ولا أن تبشرهم بأن المغرب أحسن من فرنسا. بل كانوا ينتظرون أن يوظفهم معه كممرضين لمساعدته على إنعاش البلاد وتلقيحها ضد زعماء الفساد، وساسة الوهم.
لم يعد بالإمكان السكوت على ما يجري ويدور من تعفن أخلاقي، ثقافي، تربوي وتعليمي.
وما نحصده من وراء واقعها المرير. وما تفرزه من كائنات سياسية ونقابية وجمعوية وحقوقية وفضولية،.. تزاحم الشرفاء والكفاءات والكوادر. حيث الكل باتوا يفقهون في كل شيء. يفرضون آراءهم في تدبير كل المجالات.. حتى ولو كانت أفكارهم ورؤاهم تافهة أو تعارض القوانين المنظمة ودستور البلاد.. فسدوا وأفسدوا قطاعات التربية والثقافة والحياة العامة بكل تجلياتها. حقائق توحي وكأن القيمين على قطاعي التربية والثقافة والرياضة وباقي القطاعات الحكومية، يسبحون في بحور وأودية خارج تراب المغرب. لا من يجتهد من أجل الوصول إلى حلول وبدائل، ولا من يقدم النصائح اللازمة، من أجل بناء (الوطن) الذي نريد.
وطن لن نختزل فيه رؤية المواطن، في النظارات المستعملة، وحتى وإن كانت تعبير مزاجي. لأن المغربي لن يقبل بتسميته (مواطن)، إلا إذا نال كل حقوقه التي يضمنها له دستور البلاد. وفي مقدمتها التربية والتعليم والثقافة والصحة والكرامة وحرية الرأي.. وأن يشعر بانتماءه لوطن لمغاربة تنبض قلوبهم بالوطنية، ويفخرون بمغربيتهم. والمغربي لن يكون (مواطنا صالحا)، بوطنية وغير أكيدة على سمعة وشرف البلد الذي يحتضنه. إلا إن استفاد من تربية وتعليم حقيقيين، وإلا إن تجسدت له تلك الروح في من يحكمونه، في سكونه وترحاله. والوطنية لا تقف عند قيام المواطن بالواجبات التي يفرضها الدستور أو المهنة أو الوسط… ولكنها تتجاوزه كل هذا، إلى التضحية والقيام بالأعمال التطوعية والمبادرات الهادفة… ولتحقيق المبتغى لابد أن يكون للمواطن قائد وقدوة في قمة هرم المسؤولية. والقدوة تقتضي الكفاءة والأخلاق وحب خدمة الناس. فكم من قائد منزل بمظلات السياسة والنقابة والولاءات. يفتقد لكل مقومات القيادة والقدوة ، ولن يرقى أبدا إلى مستوى الريادة. وكم من رائد حكم عليه بالتهميش والانزواء والاندثار التدريجي.
إن المغربي كأي كائن بشري، ينضح بما فيه. ويرى الأمور بكل حواسه. وليس بعينيه فقط.
لماذا نحصر مصطلح (التربية) الذي يخص الإناث والذكور بمختلف فئاتهم العمرية والمجتمعية. داخل المنازل والمدارس والدور القرآنية.. وغيرها من المرافق التعليمية؟. ولماذا سميت وزارة التعليم الابتدائي والثانوي، بوزارة التربية الوطنية. عوض أن تخلص لأهدافها الرئيسية في التعليم والتكوين. وتكتفي باسم وزارة التعليم فقط أو التعليم والتكوين. وأن تعي بأن التربية الوطنية هي جزء من التعليم. المفروض أن يترسخ في كل مغربي أينما حل وارتحل. وأن برامج التربية الوطنية لا يجب أن تكون حكرا على التلميذ والطالب. بل يجب أن تتعداهما، لتصل إلى العامل والموظف والتاجر وكل فئات المجتمع. وأن تكون برامج جادة ودائمة التجديد والعصرنة.
ولماذا نحصر مصطلح (الثقافة) داخل دور ومراكز الثقافة التابعة لوزارة هي الأخرى تحتكر اسم (الثقافة) ؟. علما أن مفهوم الثقافة، يشمل حركات وسكون كل الناس في حيواتهم الخاصة والعامة. وأن مستوى المثقف يقاص بالرصيد المعرفي والإدراكي والتفاعلي، للأمور والقضايا والمشاغل الإنسانية التي تتعدى وتفوق وتتجاوز حقيبة وزارة الثقافة. والتي قد لا تكون لها علاقة بالرصيد التعليمي والعلمي و اللغوي.
لن نحصل على مسار تنمية صحيح ومجد دائم، ما دمنا نسجن التربية الوطنية والثقافة داخل حقائب وزارية. ونضع مفاتيح تلك الحقائب في أيادي من يحترفون السياسة والمهووسون بالتموقع والقيادة. الذين يمزجون كل برامجهم ومخططاتهم ورؤاهم بأهدافهم السياسية. ونواياهم الحزبية. ويسطرون برامج تظهر الثقافة، كواجهة أو (فيترينا) لأهداف ومقاصد تخدم نواياهم وأهدافهم الخاصة.
لن نحقق نموذجا تنمويا بديلا، ونحن نحصر (قيم المواطنة) في الخضوع والخنوع والامتثال للنخب. ونقيس درجة المواطنة بمستوى الولاءات للمسؤولين. لن نتقدم شبرا واحدا عن رفقائنا داخل عدة دول، العالقين منذ سنوات في وحل (الانتقال الديمقراطي)، والمصنفين منذ عقود ضمن ما يعرف ب(دول العالم الثالث) أو (الدول السائرة في النمو) .. ما دمنا لا نغذى أطفالنا وشبابنا بقيم المواطنة الحقة، التي تفرضها الإنسانية والطبيعة بكل تجلياتها. لن نرقى بتعليمنا وثقافتنا، في ظل ما يعرفه القطاعين من قصور وتجاوزات وثغرات.. وما دامت المبادرات والمخططات والمشاريع والرؤى الحكومية دخيلة ومستوردة، يسكنها الهاجس الأمني والرغبة في الهيمنة والاستمرار تحت وصاية (العم سام) و(الخالة فرنسا) ومن يدور في فلكهما. حيث وهم الأمان وزيف التنمية.
فهل تستفيق النخب، من سباتها، وتدرك أنها ماضية في ضرب كل شيء جميل بهذا البلد الأمين. وأن ما تعيشه من نعيم اليوم، على حساب المستضعفين، لن يدوم. وأنه عاجلا أم آجلا سيتحول النعيم إلى جحيم. لأنه ما ضاع حق وراءه مطالب. والشعب المغربي مصر الآن وأكثر من أي وقت مضى على الإنصاف. وقد صمم على أنه لا بديل عن ثورة جديدة للملك والشعب. من أجل تبديد النخب الفاسدة. وإعادة هيكلة البلاد بالكفاءات والطاقات الجادة والخلاقة.