استعدادا لانتخابات 2016 التشريعية، يظهر السيد ابن كيران خلال هذه الأيام، أكثر اعتدادا بالنفس، وأشد فخرا بقراراته و"منجزات" حكومته، في محاولة يائسة لإيهام المواطنين أنه بفضل العناية الربانية، استطاع تخطي الصعاب وتحقيق الاستقرار بالبلاد، وإلا ما كان حزبه ليحرز نتائج متقدمة في الاستحقاقات الجهوية والجماعية، التي جرت يوم 4 شتنبر 2015…
بيد أن الواقع ينضح بغير ذلك، جراء تفاقم الأوضاع وتردي الخدمات، تعميق الفوارق الطبقية، اتساع دائرة البطالة، تجميد الأجور، القرارات التعسفية (أطباء وأساتذة الغد نموذجا) وتعليق الحوار الاجتماعي… فقد ظل الرجل طوال الأربع سنوات الماضية من عمر ولايته الموشكة على الانقضاء، بعيدا عن الوفاء بوعوده، خاصة ما يرتبط بمحاربة الفساد، تفعيل مقتضيات الدستور والإنصات إلى نبض الشارع. واستمر يجمع بين التسامح والاستقواء والزهد والقسوة، دون تجشيم نفسه عناء فتح ملفات: التشغيل، التعليم، الصحة والعدالة… مكتفيا بتكريس جهده في البحث عن سبل نيل رضا الدوائر العليا، والامتثال لإملاءات المؤسسات الدولية، مما أنهك كاهل العباد وزج بالبلاد في غياهب المديونية.
وإذا كان المرحوم الحسن الثاني قد قال: "إن الوطن غفور رحيم"، في خطاب الذكرى 13 للمسيرة الخضراء، بعد مرور أيام قليلة على انتفاضة مخيمات تندوف عام 1988، عندما أراد إنقاذ الضالين من الصحراويين الأصليين، ودعوتهم إلى العودة لأرض الوطن ولم شمل الأسر المشتتة، فإن ابن كيران أبدى "تسامحا" من نوع خاص، ومن على منبر إحدى التلفزيونات العربية، قال: "عفا الله عما سلف" مخاطبا ناهبي أموال صناديق التقاعد وغيرها، والضالعين في الفساد الإداري، بدعوى أنها أفضل الطرق لإيقاف استنزاف خيرات الوطن. وأنه حفاظا على سمعة البلاد وحماية حكومته من الانهيار، اضطر إلى التحالف مع ألد خصومه السياسيين، إثر انسحاب حليفه الأكبر "حزب الاستقلال" في الذكرى الأولى لميلادها. فأي تسامح أخطر مما أقدم عليه؟
ولشدة زهده، لم يلتفت إلى زلات و"تخراج عينين" بعض وزرائه: "كراطة" أوزين، "شكولاتة" الكروج، "لكوبل" الشوباني وبنخلدون، "سرير وحمام" اعمارة، "جوج فرانك" شرفات أفيلال، و"22 ساعة عمل في اليوم" الحيطي… ثم تخليه عن معظم صلاحياته الدستورية، والاكتفاء بالبعض منها كالتعيين في المناصب العليا لغرض في نفسه، وتنازله مكرها عن صفة الآمر بالصرف لفائدة وزير الفلاحة السيد: أخنوش، في تدبير صندوق تنمية العالم القروي. والتوقيع على مرسوم وزاري، يستفيد بموجبه أعضاء المجلس الأعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي بمنح سخية، رغم تقاضيهم أجورا وتعويضات في مناصبهم الأصلية أو في البرلمان بغرفتيه، وتمتيع البرلمانيين في مرحلة سابقة بامتيازات مغرية، لتحفيزهم على حضور اجتماعات اللجان والجلسات العمومية…
وبقدر ما كان "متسامحا" مع البعض، كان كذلك "حازما" مع البعض الآخر، ومنهم وزير التربية الوطنية "الشيخ" رشيد بلمختار. ففي جلسة المساءلة الشهرية بمجلس المستشارين ليوم فاتح دجنبر 2015، لم يتردد في توجيه انتقادات لاذعة له على الهواء، لعدم التشاور معه في إصدار مذكرة "فرنسة" مواد علمية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي. وفي جلسة مماثلة، جرت أطوارها في 28 أبريل 2015 أبى إلا أن يسفه خطاب المعارضة، واتهامها بعرقلة مشاريع "الإصلاح"…
فابن كيران، لم يتحرج من التنكيل بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، عبر ضرب قدرتها الشرائية وتحرير أسعار المحروقات، عند إقدامه على "معالجة" صندوق المقاصة، دون إيجاد بديل آخر للدعم، وإقرار ضرائب على الثروة والخمور… وها هو اليوم يعيد الكرة، بتغييب منطق التشاور والتشارك مع الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين، واللجوء إلى مقاربة هجومية انفرادية، بوضع خطة "إصلاح" نظام التقاعد على حساب الموظفين والمستخدمين، اعتبرها بمثابة الدواء المر، الواجب تجرعه قبل استفحال الأمور. وقد تزامنت مع الحملة الشعبية الساخطة، المطالبة بإسقاط نظام معاشات البرلمانيين والوزراء، المتنافي مع أسس العدالة الاجتماعية. ونستحضر هنا ما قاله في مقابلة تلفزيونية سالفة: "لا يمكن اعتبار هذه التعويضات ريعا، ولا يعقل أن يتحول وزير ما إلى حارس سيارات بعد نهاية مهامه…". فهل سيتفاعل سيادته هذه المرة مع الحراك الشعبي، والتخفيف من حدة الاحتقان الاجتماعي القائم؟
وللرجل قدرة خاصة على توظيف الخطاب الديني، واستغلال المؤسسة الملكية في المهرجانات الخطابية، مما أفضى بأحزاب المعارضة إلى طلب تحكيم القصر، كما له "شجاعة" نادرة في هضم الحقوق والقمع ومصادرة الحريات والإجهاز على المكتسبات… فمن غيره استطاع تحويل المقرات الحزبية إلى ساحات للتحرش الجنسي بالنساء، وفضاء البرلمان إلى ميدان ل"مصارعة الثيران"، والإضراب إلى مجرد غياب غير مبرر، يستوجب الاقتطاع من الأجرة. وإرغام المدرسين البالغين سن التقاعد، على مواصلة العمل إلى غاية متم شهر غشت من كل سنة. والدفع بالمركزيات النقابية، إلى تنفيذ إضراب وطني عام يوم 29 أكتوبر 2014. وإفراغ العيد العمالي من أبعاده الإنسانية العميقة، بجر النقابات إلى مقاطعة احتفالات فاتح ماي 2015، ما جعلها تتخذ قرارا بمقاضاة حكومته أمام "منظمة العمل الدولية"، لخرقها الاتفاقية الدولية والإعلان العالمي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 1998، التي صادق عليها المغرب؟
إن الاسترسال في الحديث عن تجربة ابن كيران، سوف لن يزيدنا إلا تذمرا. ولنتوقف عند هذا الحد، ونتساءل إن كان كما يزعم، استطاع قيادة سفينته بسلام نحو بر الأمان، بعد كل الأعطاب التي لحقتها وما خلفته من أضرار مادية ومعنوية بليغة؟ وهل من "المعقول"، ألا يتذكر الفساد إلا عند مشارف نهاية ولايته، بتخصيص برنامج ملغوم لمحاربته بكلفة مالية تقدر ب: 350 مليار من المال العام؟ وحدها الانتخابات التشريعية القادمة، قادرة على الرد بموضوعية، إذا ما اتسعت دائرة المشاركة الإيجابية…