جلالةالملك،
كنت في طريقي الى عاصمة المملكة الرباط، عندما اتصل بي صحافي من إحدى أهم الجرائد الوطنية لأبدي رأيي فيما أعلن عنه رئيس حكومة بلدكم السيد ماريانو راخوي في موضوع تخليكم عن العرش لابنكم ولم يتبادر الى ذهني أنذاك – و أنا أحاول أن أجد المكان المناسب في القطار لإجابته – إلا صورة رئيس حكومتكم الاول السيد أدولفو سواريس الذي كرمناه قبل اسبوع في المركز الذي اتشرف بقيادته، مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية و السلم، حيث أخبرتني صديقة كولومبية عارفة بخبايا تاريخ مملكتكم – وأنا أستعد لإقناع فريقي لتكريم الراحل ماريو سواريس على هامش الدورة الثالثة لسينما الذاكرة المشتركة الذي انعقد أخيرا بمدينة الناضور – أنه لم يكن يتذكر طيلة حياته الأخيرة التي اصيب فيها بمرض الزهايمر في مراحله المتقدمة إلا اسم جلالتكم . أنذاك عرفت اكثر من أي وقت مضى ، ان الكبار لا يتذكرون إلا الكبار، مهما اشتد عليهم المرض، ومهما تقدمت بهم السنون،و لعب فيهم الزمن اللعين ألاعيبه التي استعصت عن كل علم.
سيتذكر العالم جلالة الملك ، يوم نزلتم على ارض بلدكم،في محطة بئيسة تشبه بؤس الزمن السياسي الاسباني أنداك، و انتم طفل لايتعدى عمره العاشرة إلا بقليل – تحملون حقيبة الامل في اليد اليمني والأخرى مستعدة للتلويح بها الى مستقبلكم الذي تجهلونه ، طفل كتب عليه أن يتخلى عن طفولته لتلبية نداء مستقبل بلده، و أن يلعب لعبة الكبار بأسلحة صفاء الملائكة الصغار ، وأن يترك عائلته تلعن العسكر و من ساندوهم و ناصروهم في حربهم ضد اليسار زمن الحرب الاهلية ، و أن يعي و هو طفل صغير أن الاعداء كثر، و لا حيلة له أمامهم الا التشبث بابناء الارض و بمستقبل البلد .
قليل من الناس يتذكرون اليوم الذين من اليمين و اليسار ممن كانوا ضد أن تتولوا الحكم في بلدكم الجريح الذي نزف دم الدكتاتورية ،ممن رؤوا فيكم ملكا غير قادر على تسيير اسبانيا بعد جبروت فرانسيسكو فرانكو ،ولكن الجميع يتذكر و يعترف أنكم قدتم تجربة فريدة و رائعة ، تجربة قال لنا عنها المفكر المغربي محمد العربي المساري في الكلمة التي بعثها الى لقاء تكريم الراحل أدولفو سواريس " يقر الجميع بأن الانتقال الديمقراطي في جارتنا الأيبيرية كان مسلسلا سياسيا ذا أهمية تاريخية. وما زال ذلك الانتقال حتى الآن مضرب الأمثال كمسلسل سياسي انتقلت به إسبانيا من وضع بلد حكمته بيد من حديد ديكتاتوريا طيلة 39 سنة إلى بلد ديمقراطي بكامل المواصفات. ونتج عن ذلك الانتقال تغير حالة إسبانيا سياسيا وثقافيا واجتماعيا و اقتصاديا من الشيء إلى ضده. وكان ذلك التغير كاملا شمل كل مناحي الحياة، حتي ليمكن القول إنه تغير جدري. بل كان التغير الجدري الوحيد الذي وقع في القرن العشرين بلا نقطة دم. "، و لكن الكثيرون منا يتذكرون أنك في ذات صباح فبرايري وقفت لتقول "لا" لطغمة عسكرية أرادت أن ترجع بلدكم الى زمن "الطغمة العسكرية".
نعم سيسجل لكم التاريخ أنكم انهيتم في بلدكم "زمن الانتقالات الدموية"التي ابكت الامهات الإسبانيات و أخرت في كل مرة بلدكم سنون عديدة ،حيث بينتم أن الذكاء الجماعي هو الحل الوحيد و الاوحد للانتقال بالصيغة السليمة ، أقول قولي هذا و أنا العارف، بكل تواضع، بتعقيدات الوضع السياسي ببلدكم و طبيعة النخب الوطنية و الجهوية لديكم، و بأوهام من يريدون بناء كيانات صغيرة ، و هو ما يهدد اسبانيا حقيقة اليوم ويستدعي من الاسبان مرة أخرى إعمال نفس الذكاء الجماعي الذي استعملوه للانتقال ببلدكم الى إسبانيا اليوم .
سيكون لكم الشرف جلالة الملك ، انكم قدتم – بالرغم من صغر سنكم و حداثة تجربتكم انداك ، " تغير جذري وسلمي ظل حتى الآن نادر المثال. وكان مثالا سعت كثير من المجتمعات في أوربا وغيرها إلى الاقتداء به، لأنه بين أنه حينما توجد الإرادة السياسية، تأتي باقي العناصر المكونة للإرادة الجماعية، ولكن لا مناص من شروط اجتماعية واقتصادية داخلية. " على حد تعبير محمد العربي المساري في كلمة تكريمه للراحل أدولفو سواريث.
كثيرون كانوا يعتقدون أن اختفاء الجنرال فرانكو – الذي أساء الى اسبانيا و الاسبانيين – و الينا كذلك عندما جيش كثيرا من أجدادنا الأميين الفقراء للحرب بجانبه في حرب ضد الشرعية السياسية التي افرزتها انتخابات شفافة و شرعية، ستتحول اسبانيا الى ما تحولت اليه، هؤلاء كانوا واهمين، وتسكنهم الإرادوية التي تقتل ابداعات الشعوب ، ذلك ان الامر راجع إلىكم ، و الى فريقكم ، و الدكاء الجماعي للاسبان- ليحدث ما حدث. ما حدث –جلالة الملك – كان يتطلب وجود شروط داخلية وخارجية لترجح كفة التغيير الذي كان مطلوبا في الساحة الإسبانية منذ مدة هو ما كان مطلوبا منكم، وقد وفرتموه بسخاء لشعبكم.
جلالة الملك،
لا أحد اليوم ينكر، أولا ، أنكم ورثتم اسبانيا على قدر حال اقتصادي مستور كما نقول نحن عندنا هنا ، و لا أحد يمكن أن ينكر، ثانيا، انكم ورثتم بلدا يشكو من كل الاعطاب السياسية ، و لا أحد يمكن أن ينكر ، ثالثا،كذلك أنكم وفرتم لبلدكم أطول الدساتير عمرا في تاريخها " ، و لا أحد ينكر، رابعا، – بالرغم من ألاعيب الساسة و بعض المثقفين في الديمقراطيات الحديثة الذين يلوحون باكتشافات – ان ينكر دوركم الرئيسي في عملية الانتقال السياسي الديمقراطي ، دوركم في إرساء قيم الحرية والسلم طيلة عهدكم" على حد تعبير جلالة الملك محمد السادس.سيسجل لكم التاريخ أنكم وقفتم الى جانب الطبقات الوسطي التي كانت تطالب بإلحاح أن تتغير البنيات القائمة في ظل الديكتاتورية ، وأن تستبدل ببنيات غيرها تكون أصلح لبناء إسبانيا متفتحة وقادرة على التفاعل مع الاقتصاد العالمي، واللحاق بركب الدول المتقدمة. " و أنكم أقنعتم عناصر من الجيش، وتنظيمات الكنيسة، والعناصر النشيطة بداخل التنظيمات النقابية،لمسايرة نظرتكم الى التغيير و فرض منطقه ، وساهمتم جميعا في كيميائية التغيير الذي بات يعرف اليوم ب"التجربة الاسبانية في الانتقال الديمقراطي"،التي أبهرت العالم قبل أن تقنعه ، العالم الحر الذي كان يكره الدكتاتوريات و بقاياها – بتغيير النظرة الى بلدكم، و أصبحتم تجربة تمدنا في شمال افريقيا بكثير من الأمل، أمل وصول رجل الى سدة الحكم يستحقه المستقبل.
سيسجل لكم التاريخ جلالة الملك، أنكم ساهمتم مع أحرار بلدكم في تغيير البنيات التي فرضتها الطغمة العسكرية التي كان يقودها فرانسيسكو فرانكو و عملتم على استبدالها ببنيات تمكن من الانفتاح على المحيط، و من اللحاق بالمشروع الاندماجي الأوربي ، وهو مشروع ظل لعدة عقود يشترط الديموقراطية للانتماء إليه. ذكائكم هذا ، جلالة الملك، جعل الجميع يرى أن الوضع ناضج لكسر الجمود وبناء إسبانيا جديدة، و قد توجتم هذا المسلسل باختيار أحد أكبر الرجالات الذين ولدتهم الامهات الاسبانيات لقيادة هدا الانتقال الى البلد الذي كان يستحقه الاسبان،ويحقق بعض أحلامهم ذلك أن الرجل لم يكن يصنع الاوهام ، و لا يمضغ الكلمات ويكذب على الناس ويؤجل أحلامهم إلى تاريخ مفتوح على كل الأطماع ، بل قرر أن يعترف بكل الحقائق التي توجد في المجتمع على حد تعبير الصديق محمد العربي المساري في الرسالة السابقة الذكر،ودعى الاسبان الى انتخابات حرة مفتوحة أمام الجميع وزودهم بدستور يكفل لهم جميع الحريات،ويقدم لهم الضمانات بإجراء انتخابات مفتوحة أمام الجميع و إعطاء البرلمان صلاحيات تأسيسية ، وحينذاك اتجهت بلدلكم بشجاعة إلى التزود بدستور توج نضالات ، وقدم ضمانات لتصبح إسبانيا اليوم دولة قانون، ولبناء هيكل الدولة على أساس أنظمة حكم ذاتي للجهات التي كسرت أوهام الانفصاليين ، وزودتها بأنظمة للتشاور والتقرير واستيعاب قواعد الحكامة الرشيدة .
واليوم يحق للعالم أن يهنئكم ويستحضر روح ألفونسو سواريس والترحم عليه لهذا الدرس البليغ الذي لم يكن يلتمس المرحلية لتبرير أنصاف الحلول أو استبعاد الشفافية والنزاهة خاصة وأن هذه الأجواء سمحت للإسبان بطرح كل القضايا التي شغلت بالهم من مئة عام أو يزيد. ومرد هذا الحق في الفخر والاعتزاز هو أن هذه اللحظة كانت قطعية ، فلا يخفى على أحد أن بلدكم عرفت قبل سبع سنوات وثائق دستورية تعطلت بسبب عدم الإقدام على القرارات التي كانت كفيلة بمعالجة الأمراض الاجتماعية والبيروقراطيا والفساد والتطرف.
الى المستقبل جلالة الملك،
لي أمل كبير فيه، فبيننا رجالات يستحقهم الحاضر و المستقبل.