بقلم : عزيز لعويسـي
كان “رامي” بقامته المتوسطة ولون بشرته الذي يميل بأريحية إلى الحمرة كما تميل أشرعــة العشق نحو ضفاف القلوب المتيمة .. كــان مزهوا داخل المدرج وكأنه طاووس قادم من براري الشـوق .. كان يبدو وسط بذلته الزرقــاء كحارس أمن لا يعــرف في قاموسه سوى الطاعة والانضباط .. بين الفينة والأخـرى كان يمتطـي على صهـوة أشعاره الدفينــة ويصول ويجول بنظراته الساكنة سكون ليل سيدي بوزيد ومولاي عبدالله ..في تلك اللحظـة التاريخية كان رامي نكـرة .. ولا أحد من أصحاب البــدل الزرقاء كان يـدرك أن رامي سيكتسـح الحجر والشجر .. سيصبح “متيم” و”سليمان” القاعة الزرقـاء التي كانت في تلك اللحظات المبكرة نكــرة كرامي ..
رامي .. مسك “حد لبراشـوة ” أيقونـة منطقة “زعيــر” الممتدة الأطـراف التي تحـرس الرباط كالعساكر المرابطة .. وأريــج فردوس مدينة تمـارة الخضراء .. مـدارة تتقاطع فيهـا كل سبل وطـرق الخيـر والمحبـة .. البساطة والتواضع .. الشوق الكاسح والهيـام الجارف .. مثقــلا بنياشين كل هذه الألــوان .. كان رامـي واقفا كالصنم غير قريب من الباب الخلفي للمدرج .. ملتصقا بسليم كالطيــف وكأنه حارسه الخاص .. وبين الفينــة والأخرى كان يسافر بعينيــه عبر رحلات مكوكيـة بين المقاعد والصفــوف وكأنه يبحــث عن سر دفين أو كنـز مفقــود .. لكن نظراتـه الولهانة تعثــرت بشكل غير متوقع وغير منتظـر بصخـرة الهيــام .. وسط زحمة البذل الزرقاء .. انجذب نورس عينيـه نحو حمامة حطت الرحال بالمركز قادمة إليه من سهل الشاوية ، وهي تطرح سـؤالا على الأساتذة المكونين .. لم ينتبـه “سليم” وقتهــا لا إلى الحمامة التي بسطت السؤال ولا حتى موضوع السؤال لحالة الازدحــام التي كان عليها المـدرج .. لكن “رامي” وبعد مـرور شهـور لا يزال يتذكر الحمامة وحتى موضوع السـؤال .. كانت هذه الأخيرة كما يحكي رامي .. ترتــدي بذلة موحدة زرقـــاء زرقــة البحر بقميص أزرق سمــاوي ورابطة عنـق .. بـدت له وهو واقف كالعسكري كنحلة نشيطة تتنقل بأريحية وتبختر بين حقول الياسمين وشقائق النعمان …
لم يكن “سليم” لحظتها يدرك حركات وسكنات رامي وما يـروج في أروقته الداخلية من همســات .. كما أنه لم يكن ليهتـم بمثل هكــذا أشيــاء وهو لم يتخلــص بعـد من ثقـل الأصفــاد وطوق الأرقــام السليبــة .. يحكي له “رامـي” بأشواق تكــاد تنفجـر من عينيـه كالصهيــر المتدفــق بانسياب من فهوة البركان الثائــر .. أنه كان يتلــصص وقتها كالمخبر على حركاتها وخطواتها وهـي تتنقـل كالفراشة الوديعـة بيـن الصفوف والمقاعـد .. كانت تبــدو له كطــاووس عاشق قادم من بــراري العشق أو كفارسة ولهــانة قادمـة لتوهـا من انتصار كاسـح أتى على الأخضر واليــابس .. نظرات المهــد كانت كافيـة لتربــك حسابات “رامـي” وأن تبـت في قلعتـه الصامـدة نسائم متناثــرة من الإعجــاب الجارف ..
انتهــت أيام الاستقبال بما لها وما عليهـا .. وامتطت على صهــوة الرحيل كما ترحل الطيـور المهاجرة هروبا من قســاوة شتاء الشمال .. تاركــة خلفهــا حكاية “رامي” الذي داعبـه شـيب الهيام فـي هـذه اللحظات المبكــرة .. وفي ظل صعوبة إمتطاء صهوة “الوضعيات المهنيـــة ” بعدما أشهر “الأساتذة المرشدون” سيوفهم وصعدوا الجبل وأغلقــوا الأبواب والنوافــذ .. إنهـد بنيـــان “البراديغم عملي نظري عملي” .. وصاحت ديكـة المجزوءات مبكـرا .. إذ لم يكن من خيــار سوى بداية الدروس والتركيـز على الشـق النظري في انتظار أن تهب رياح مرسلـة تبشـر بزخات وضعيات مهنيــة قد تأتـي و قد لا تأتـي ..وانطلقت ناعورة الدروس في الـدوران صباح مساء بإيقاعات سريعـة داخل مضمار القاعـة الزرقــاء .. لكن الصدف شاءت أن يكون نورس رامي وجها لوجه أمام حمامة الشاوية التي داعبت مرايا عواطفه المحنطة في يوم الاستقبال .. وكأن الشوق يتعقبه “زنقة زنقة “..” بيت بيت” ..”دار دار” ..
يوميات رامي داخل المركز أبانت أنه مدارة ممتدة الأطراف تتقاطع فيها كل طرق الشاعرية والشوق والخلق والإبداع .. وكل سبل الحكمة والوقار والثبات .. وكل مسالك العفوية والتواصل والجرأة الكاسحة ..من عالم الصمت أبى إلا أن يزحف بخطوات جريئة نحو التألق والتميز .. لقد سرق الضوء ولفت الأنظار داخل القاعة الزرقاء بعفوية وجـرأة فاقت وتجاوزت الحدود .. في إحدى عروض مادة دعم التكوين الأساس تاريخ ، لم يتردد سليم وهو يتناول الكلمة من تقديم “رامي ” أمام المجموعة باسم “الشاعر المبجل” وكان ذلك اعترافا منه بشخصية رامي وما تزخر به من شاعرية وتلقائية ليس لها حد ولا نظيــر…لكن هذا “الشاعر المبجل” أبى إلا أن يتحول إلى “السلطان سليمان ” .. وحكاية هذا اللقب جاءت في إحدى عروض نفس المادة ، لما طلب من “رامي” قــراءة نص تاريخي عبارة عن مقتطف رسالة لأحد السلاطين العثمانيين .. لم يتردد “رامي” في استغلال هـذه الفرصة السانحة .. وقام بقــراءة النص .. بصوت شاعــري جميل أثار انتباه وإعجاب الجميــــع بدون استثناء .. ومن يومهــا .. أصبح “رامي ” يرتــدي رداء “السلطان” .. السلطان سليمــان .. ورغم هذا التحول ، لم تتغيــر أحاسيســه الدفينة نحو”حمامة الشاوية ” القادمة من إحدى البلدات الراقدة في صمت بين بيــــادر سهل الشاوية حيث يتقاطـــع عبـق التاريــخ بأريــج الجغرافيــا .. إنهــا الأستاذة المتدربة “رانيــا” .. شابــة دخلت في عقدها الثالث .. بلون بشرتها البيضـــاء وقامتها الطويلة وبنيتهـا القويــة توحي أنهــا شاويـة حتــى النخاع .. إبتسامتها التي لا تفــــارق شفتيهــا ونظراتهـــــا العميقــــة وتقاسيم وجههـا الصارمــة ..تعكس بين ثنايــاها شخصيــة متفــردة مهووسة بالإثارة ميالة إلى حب الظهــور .. إلى درجة تعطي انطباعا للناظر أنها أقرب للخشونة من الليونــة وللصلابــة من الرقــــة .. لكنها بالنسبة لسليمان ،فقد كانت بمثابة قصيدة شوق تحمل بين طياتها كل أبيات الجاذبية وكل قوافي الإعجــاب .. كلما نظرت إليهــا داخل الفصل إلا ورأيتهـا غارقة في واد من الضحـك بطريقــة لم يكن “سليم” يجد لها وصفا ولا تفسيـرا .. لكنها سرعان ما تتخلص من مخالب الضحـك بطريقة انسيابية كلما نظر إليها الأستاذ المكـون فتبـدو أكثر ثباتا وانضباطا وإصغــاء .. وفي إحدى المجموعات الخلفيـة كان يجلس سليم محفوفا بالسلطان سليمان .. حافظا على نفس المجموعة التي لم تستقرعلى حال وكأنهـا مـزار كل من حل فيه إلا وارتحل دون سابــق إعلان ..
كان رامي يبــدو دوما غارقا في صمـت وكأنه شيـخ قبيلـة .. وبيـن الفينة والأخرى يسافر بنظراته نحو ضفاف “رانيــا” .. وكلما التقت العين بالعيـن .. إلا ويبادلها التحيـة عن بعـد بابتسامة عريضـة تخفي وراءها أكثر من علامة استفهام.. ولا تتـردد هي الأخرى في مبادلته بنفس التحيــة وربما بأحسن منهــا .. يومـا بعد يوم وحصة بعد حصـة .. تغير حال “رامـي” كما تتغيـر ألـوان السمـاء بعــد أن صـار “السلطان سليمان ” و” الشاعر المبجـل ” .. فعلت فيه خمـرة العشـق فعلتهـا .. وأضحـى كمجنــون ليلى .. يتسكـع كل ليلـة بين الأروقة والممـرات .. يتغـزل في النافورة المهجورة .. يخاطب شجرتي التوت الباسقتين .. يطلب ود النخلة الصامدة وشجـرة الزيتــون المحتشمـة .. لا يزال يتذكر ” سليم ” في إحدى حصــص دعم التكوين الأساس في مادة الجغرافيا ، لمـا أصابت نوبـة ” الشـوق ” السلطان سليمان داخل القبــة الزرقــاء .. أخد يوجـه رسائل “سلطانية ” إلى “رانيـا” عبر وساطة “الدفتردار” الأستاذ “أحمد” .. كان منتشيـا ومزهوا وهـو يكتب بأناملـه “كلمات مودة ” إلى رانيـا .. ملفوفـة برسائل مشفــرة دفينـة وحده يفهـم عمقهـا وفحواهــا .. وكانت “رانيـا” تـرد على كلماته بمــداد من الرقـة والنشـوة والحبـور والبسمة لا تفــارق محياهـا .. فجــأة انصاع ” سليمان ” إلى سلطة الشــوق وانحنى أمام سحـر “العشــق” .. ونهض كالبطل الهمام إلى السبــورة نــزولا عند طلبات الزمـلاء من أجل البوح ببعــض الكلمات الشعربـة .. وقد كان “سليـــم” واحـدا من الذين أججـوا قريحة ” سليمان ” ودفعوه إلى النهوض إلى السبــورة والوقوف أمام الجميــع .. خيمت وقتهــا على “سليمان ” شجاعـة لا توازيها شجاعـة وعفويـة لا تضاهيها عفويــة .. لم يفــوت ” تلك الفرصــة التي قلما تجود بهـا يوميات الهــوى ..كان يبدو كشاعر تأخر به الزمان ..”كعنترة بن شداد” في أيامه أو “امرؤ القيس” في زمانه …وخاطب “رانيــا” أمام المــلأ بكلمات انحنى أمامها الجميــع ضحكا وبهجـة وحبــورا ..
” كفاك صمتــا ..
إن صمتك يحيرنـي ..
يرعبني ..
يطرح أكثر من تساؤل في ثنايا نفسي ..
بل صمتك يعذبنـي ..
يقلقني ..
وأكــاد أنغمـس في بحر هيامـك ..
كفاك صمتا ..
إن صمتك يجعلني تائهــا ..
كفاك صمتــا أي رانيا ..
كفاكم صمتا جميعــا ..”
كفاك صمتـا .. أخرجت أشواق ” سليمان” إلى العلـن .. حاملـة أكثر من رسالة إلى ” رانيـا” التي تحولت منذ تلك اللحظــة إلى “هيـام” كما تحول “رامي” إلى “سليمــان” .. ومن يومهــا .. أضحى “سليمان” رجلا آخـر .. يتنفــس تحت الماء .. عشقـا وشوقا وهيـامـا .. وأصبحـت “رانيـا” أو “هيــام” ذاك الطيــف الذي يلازمـه في كل لحظـة وحيــن .. يتذكرها كلما مر أمام النافورة الزرقــاء .. كلما توقــف لحظات أمام شجرتي التوت الباسقتيـن .. أصبحت صورتها تطارده كالأحــلام الكاسحة .. كالهواجــس .. كلما تحـدث عنهــا وهو يقبل كأس شــاي منعــنع داخل الغرفـة .. كلما كان مبتهجا مســرورا مفتخرا بهـا .. بعد أن هاجرتهــا الحمائــم والنسائــم .. خاصة بعد أن جمعهمـا لــواء البحــث الإجرائي .. في غفلــة من الجميـع .. حينهــا كانت حكاية “سليمان ” و”هيام” موضوع الساعة .. تتــردد في السر والعلن .. يحركها ســؤال دفيــن يفرض نفســه بكل إلحــاح .. “سليمان” و”هيــام” .. أية تقاطعات بينهما ؟ هـل هو عشــق وهيــام ؟ أم هـو حلــم عابــر عبــور السحــاب ؟ أم هــي حكايـة للنسيــان ؟
– أستاذ التاريخ و الجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي (المحمدية) ، باحث في القانون وقضايا التربية و التكوين.
[email protected]