الرئيسية / اقلام حرة / يوميات أستاذ من درجة ضابط … مشكل الوضعيات المهنية

يوميات أستاذ من درجة ضابط … مشكل الوضعيات المهنية

مع إنطلاقة موسم التكوين ، ومع أول وضعية مهنية في إطار أسبوع الإستقبال بالثانوية التأهيلية ''إبن خلدون'' وغيرها من مؤسسات التطبيق ، لاحت في الأفق ملامح أزمة لم يكن "سليم" يعرف وقتها كواليسها وجزئياتها ولا حتى تطوراتها وإنعكاساتها على مسار التكوين .. أزمة من جهة بين الأساتذة المرشدين الذين يفترض أن يستقبلوا ويؤطروا المتدربين داخل الفضاءات الفصلية في إطار الوضعيات المهنية، والوزارة الوصيــة من جهة أخرى.. أولى المعطيات التي وصلت الى مسامع الأساتذة المتدربين  سواء عن طريق المؤطرين أو مدراء المؤسسات ، أن الأساتذة المرشدين هم بصدد مقاطعة عملية الإنخــراط  في مسار التكوين في شقه العملي، في محاولة منهم لي ذراع الجهــاز الوصي وإرغامه على الجلوس على مائدة الحوار والتفاوض من أجل نيل مطالبهم المشروعــة والتي كانت في مجملها ذات طابع مادي صــرف (تعويضات مالية ) لما يقومون به من مهــام إضافيــة في تأطير المتدربيــن داخل الفضاءات الفصليــة ..في تلك اللحظات الأولى كان الأساتذة المتدربون لا يملكون ســـوى بذلات زرقــاء اللون وربطات عنــق عوضت الوزرات البيضـــاء .. يتحركون كالقطيـــع من المركز إلى المؤسسات التطبيقية وفق الإعلانات والتوجيهات .. ولما يحلون ضيوفا على المؤسسات يتم لفظهم بسلاسة كما يلفظ البحر المتوسط جثث الحالمين بأضواء الشمال .. ويعودون أدراجهم إلى المركــز بخفي حنين .. كان "سليم" يدرك أن المتدربين هم خارج الأزمــة وبعيدون عن لعبة شد الحبل فوق بساط يتقاسمه الأساتذة المرشدون والنيابة والأكاديمية والوزارة الوصيـــة .. وكان في نفــس الآن يتأســف من مشاهد مسرحية مخجلة تحول فيها المتدرب إلى ورقة ضغط أو "جوكيــر" يحاول كل طرف إسغلالهــا لكسر شوكة الطرف الآخــر …كان الوضع مخجلا ومقلقا في نفس الآن .. لكنه عكس بما لا يدع مجالا للشك "واقع" منظومة يشهد الجميع بفشلها الذريــع .. أسئلة متناسلة تجتر بعضها بعضا كانت تطــارد "سليم " كالشبح .. كان بين صورتين متناقضتين تماما .. مجال "الشرطة " حيث لا مكان الا للنظام والانضباط وتنفيذ التعليمات .. ومجال "التعليم" حيث العشوائية واللخبطة وعدم وضوح الرؤيــة ولغة الحسابات والأنانية المفرطـة .. تساءل حينها .. كيف تعجز وزارة عن ضبط عمل مصالحها الخارجيـة (أكاديميات ، نيابات ، مراكز ، مؤسسات ) .. وكيف لا تقو على الاستماع الى الأساتذة المرشدين وتلبية طلباتهم المشروعــة باعتبارهم قناة أساسية لا محيدة عنهــا في عملية تكوين الأساتذة الجـدد .. أسئلة كثيرة أثقلت كاهل "سليم" في هذه اللحظــات المبكرة .. لم يقو على فهم حيثياهــا وكواليسهــا .. لكن الخلاصة التي كانت بادية للعيــان .. هي أن "الأستاذ المتدرب" هو آخر من يفكر فيـه وسط حلبة يتصارع فيها الكبـار ولا صوت فيها الا صوت المصالح .. وفي ظل هذه الأزمة الكاسحة .. كان لا مفر من تطبيق المخطط "باء" الذي كان يعني تعويض الوضعيات المهنية بالدروس النظرية .. الى أجل غير مسمى .. في انتظار أن تضع "الحرب" أوزارهـا …

بعد أن تبين أن الأزمة عميقة ومستعصيـة الحلول .. نفذت الإدارة المخطط "باء" أي "الدروس النظرية " كبديل مؤقت في انتظار أن تلوح في الأفق ملامح حل قد يكون وقد لا يكون … تكسر "الأنموذج عملي نظري عملي" على عتبــة الواقــع ، وتحول عنوة إلى "أنموذج نظري نظري نظري" .. وإنطلقت ناعورة "الدروس النظرية " في الدوران وسط حقل "القاعة الزرقاء" من الاثنين صباحا الى الجمعة مساء .. بمعدل ثمان ساعات في اليوم لايفصل بينها سوى ساعتين من أجل التقـاط الأنفاس وآداء صلاة الظهر وتنــاول وجبة الغداء ..وكأن الأمر يتعلــق بصراع شرس حول من سيكسب المليون .. ولم تكن الحكاية تنتهي عند هذا الحـد .. بل عادة ما كانت تستمر ناعورة المعاناة في الدوران داخل الغرف حتى ساعات متأخرة من الليل .. من أجل إعداد جــذاذة أو البحث عن "مورد رقمي" في الشبكة العنكبوتية أو إعداد عروض .. وما تكاد العيون تغمد حتى تستيقض صباحـا تحت صيحات بعض القطط المتسكعة بين جنبات الداخلية .. لتبدأ يوميات هتشكوكيـة جديدة داخل رحاب القاعة الزرقـــاء .. كانت عطلة نهاية الأسبوع بمثابة إستراحة محارب وأخذ الأنفـــاس قبل استئناف العدو في مضمار أرضيته ملئى بالمطبات .. أيام الاثنين كانت تعني .. بدايــة أسبوع جديد من العدو والركض .. بل أسبوعا جديدا من الآهات والمعاناة وسهر الليالي الطوال .. كانت الرحلة تبدأ بحصة رباعية في مادة التخطيط  تليها رباعية أخرى في مادة التدبير وتنتهي الجولة الأولى بحصة " تيس" (تكنولوجيا الإعلام والإتصال) .. ليتواصل مسلسل الرعب مع حصص "علوم التربية " حيث لا مكان إلا لجهاز"الدتاشاو" .. مرورا بحصص دعم التكوين الأساس تاريخ وجغرفيا ، لتنتهي الحكاية مع حصص البحث التدخلي الاجرائي …وفي كل رحلة أسبوعية تتساقط على الرؤوس زخات قوية من الوثائــق الورقيــــة ناهيك عن عشرات من الوثائق الرقمية .. وإذا كانت هذه الأخيـــــرة تجد ملاذها الآمــن في الحواسيب ، فإن الوثائــق الأولى كانت تمر عـــادة عبر النسخ بمكتبة محفوظ المجاورة ، قبـــل أن تجد طريقهــا نحــو الملفات الشخصية (البورط فوليو) الراقدة تحت أسرة الألم … وسط هذا المضمار .. الكل كان يجــري .. الكل كان يلهث وراء الوثائق المتراكمة .. وكأننا في حرب شرسة ..الكل فيها ضد الكل كما قال "طوماس هوبس" … وفي عز الدروس النظرية بكل ما حملته من رتابة قاتلة .. كانت تتقوى يوم بعد يوم الرغبة في خوض غمار الوضعيات المهنية .. على الأقل لكسر شوكة الدروس النظرية .. وتجاوز مطبات الرتابة المدمرة …

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *