بعد إمتحان التخرج وتقديم البحوث الإجرائية والتوقيع على محاضر الخروج ، إنتهت حكاية موسم تكويني إستثنائي بكل المقاييس ، وامتطى كل متدرب صهوة الرحيل في اتجاه الأهل والديار … لكن حكايات الترقب والانتظار أبت إلا أن تحط الرحال عنوة على مسرح الأحـداث مؤجلة لحظات الراحة والاستجمام الى أجل غير مسمى .. وتفرض نفسها كالهواجس على العقول والقلوب والأفكار والأحاسيس وحتى الآمال المرتقبة والأحــلام المتوقعــــة …إنها حكاية " التعيينــات " التي تقاطعت فيها كل طــرق ومسالك التشويــق والترقب .. في يوميات "هتشكوكية " ساخنــة لا توازيها سوى حــرارة أغسطس ، شبيهــة بمسلسل مكسيكـي مطول عنوانــه " إنتظــار" …
بدأت "الحكايــة" غضون شهر يوليوز من صيف 2014 بعد أن تسلم كل "متدرب" قنه الســري من مركز التكويــن ، في أفــق الولوج إلى بوابة "الخدمة الوطنية الإلكترونيــة للحركة الإنتقاليـة" من أجل المصادقة على قائمـة الإختيـارات ، لكن وبإدخال إسم المستعمل ورقم القن السري ، تلقـى الجميع رسالة تفيد أن ثمة خطــأ إما في رقم المستعمل أو في القن الســري ، كان يبــدو وقتها أن البوابة لم تكن محينـة من أجل الإستعمــال ، ولم يكـن أمام المتدربيــن سوى الإنتظار ترقبــا لإنفتاح البوابـة من لحظة إلى أخـــرى .. قام الأستاذ "سليم "بدوره بعـــدة محاولات للولوج لكن دون جـــدوى ، كان خلالها لا يبـــارح صفحة "الفيسبوك" سواء الخاصة بفوج الثانوي التأهيلي تخصص تاريخ وجغرافيا أو صفحة فوج الإجتماعيات إعــدادي ، وبين الفينة والأخرى يلقي نظرة على الموقع الرسمي للوزارة الوصية ،في محاولة منــه تتبــع مجريات الأحــداث ، خصوصا فيما يتعلــق بموضوع"البوابة الإلكترونيـــة " ، وقد كانت كل الردود تشيــر إلى أن البوابة لم تفتح بعد ، وكأنهــا بمثابة قلعة محصنة مستعصيــة على الغـــزاة … وبعد مــرور أيام قلائــل – تحديــدا بعد زوال يوم 16 يوليوز- تلقى "سليم" إتصالا هاتفيــا مستعجلا من الأستاذ "سليمان" أخبـــره من خلاله أن البوابة قد تم فتحهـا ..، مباشرة بعد تلقيـــه لهذا الخبــر، هرول على عجل إلى أقــرب مقهى "أنترنت" تاركـا حاسوبه الصغيـر ، وكأنه على موعـد غير متوقــع مع أحلامه البعيـدة .. أخذ مكانه في المقهى ، وفتح الحاسوب وولج أول الأمر إلى محرك البحث "كوكل" ، وعبره ولج إلى صفحة "البوابة الالكترونية" حيث بادر إلى إدخال رقم بطاقته الوطنية ورقم قنــه السري ، وإنفتحت أمامه البوابة بكل سلاســة وأريحية ، وكأنها فتـــاة متيمة تنصاع أمام فارسهــا بعد طول ممانعة وتـردد .. كان الأستاذ "سليم" كغيره من المتدربين أمـام ما مجموعه "82" نيابة تعليمية تغطي مجموع التراب الوطنـي ،وكان عليـه ترتيب النيابــات حسب الأولويـة .. كانت الصورة تبدو كجمرة حارقة تحت رماد ساكن أو لغم دفين تحـت رمال حارقة مرشح للإنفجــار في كل لحظـة .. أن يملأ كل متدرب قائمة طويلة تخص "82" نيابـة ، معنــاه أن عليـه أن يتوقـــع في تعيينـه كل الإختيــارات بدءا من الإختيار رقم 1 إلى الإختيار رقم 82 .. وهـذا شئ يصعب القبول بــه لا من حيث المنطلقات ولا من حيث الخواتم .. كان "سليم" وقتها محاصرا بنسائم الصمت من كل صوب وإتجــاه ، وكان عليه أن يفكر جيدا ويدقق في الإختيارات قبل المصادقة النهائيـة .. معتقــدا أن العملية ككل تبقــى محاطة بهامش كبيــر من النزاهــة والمصداقيــة ..ولم يكن أمامه وقتهـا من خيــار سوى القبول بأنها كذلك أو ستكــون كذلك .. هاجسـه الوحيد والأوحد كان ،أن يتم تعيينــه في نيابة المحمدية أو نيابة بنسليمان أو على الأقل في إحــدى نيابات مقاطعات الدارالبيضاء الكبــرى ، بل وقد إمتـدت مساحة إختياراتــه حتى إلى نيابة الصخيرات تمارة ونيابة الرباط ونيابة ســلا ، وما تبقــى من إختيارات كان من أجل إستكمال قائمـة الإختيــارات ..ومع ذلك فقــد حرص على إعطاء الأولويــة للنيابــات القريبـة من الدارالبيضــاء الكبرى..، وعقب الإنتهــاء من العملية ، صادق على الإختيــــارات بشكل نهائـي وغادر مقهى "االإنترنت" بخطــوات متتاقلة وكأنه خارج للتــو من إمتحــان عسيــر .. في الطريق إلى البيــت ، ركــب على صهـــوة الزمن العابـر ، وعــادت به الذاكرة إلى خـريــف سنــة 2001 بقاعة العروض " السينما" بأكاديمية الشرطــة بالقنيطــرة وهو يترقــب مكان تعيينــه إلى جانب مجموعـة من الشرطييــن المتخرجـين .. لم تكــن هناك لا "بوابــــة " إلكترونيــة ولا تسليم وثائــق تعييـــن … كل شئ كان يتم في إطار من النظــام البعيد كل البعــد عن الإرتجال والعشوائيـــة والإنتظار .. كانت "الدارالبيضاء " من نصيبــه ، وذاك التعييـــن ، ترتبت عليــه أشياء .. زواج .. أبناء .. جامعة .. بيت إستقـــرار .. وحزمة مشاعر وأحاسيس كاسحة ألفــت نسائم مدينة إرتبط إسمها بالزهــور .. لذلك ، فموضوع التعييــن لم يكن شيئــا عاديا أو مجــرد إجراء شكلي أو تعبئــة وثائــق تعييـن ، بــل كان يشكل "هاجســا" كبيــرا بالنسبـة للأستاذ " سليــم " بعد "13" سنــة من الإشتغال في سلك الشرطــة بالدارالبيضاء والإستقــرار بمدينة الزهــور .. لذلك فقــد كان يمني النفـــس أن يعين بالمحمدية أو بنسليمان أو الدارالبيضــــاء ، حتى تكــون هناك إستمــرارية في الحيــاة وعبــورا سلســا وأريحيا من وظيفــة إلى وظيفــة أخــرى .. كان يأمل ألا يرمـى به بعيــدا ..حتى لا ينكسر لا ماديا ولا معنويـــا .. لذلك فقــد عــزز ملف التعييــن بالوثائــق الضرورية من عقد زواج وشواهد مدرسية وعقود الإزديــاد خاصة بالأبنــاء بل وحتى ما يثبث أنه مـوظــف سابــق .. مــرة أخــرى كان على الأستاذ "سليم" أن يفتــرض أن مثل هكــذا وثائــق ، من شأنــها أن تقوي حظوطـه في التعييــن وأن تتم الإستجابـة لإختياراته العشرة الأولــى .. كان يحدوه أمل كبير في أن يعين في ما كــان يسميـه ب"المجال الحيوي" الممتــد من الدارالبيضاء إلى المحمدية وبنسليمان إلى الرباط سلا مرورا بالصخيرات تمـــارة ، لأن كل هذه المجالات تبقى قريبــــة من "المحمدية " والتنقل منها وإليها يبقــى مرنا وسلســا .. كان في أقل توقعاتــه ، يتمنى أن يعين بمدينة سلا أو القنيطــرة .. ولم يكــن قط يتوقــع أن يعيــن أو يرمى بــه خارج محــور "القنيطرة الدارالبيضاء" بعد أن قضى أكثر من نصف عمــره بين محــور تمــارة والدارالبيضــاء .. كان يراهـن على صفة "متـــــزوج " وصفة '' موظف سابــق" ، وكان يأمل من باب "النزاهــة " والمصداقية " و"المنطق" أن تتـــم مراعــاة الصفتيـن المذكورتين من طـرف "مهندسـي" التعييـــن … وبما أن الحكاية عنوانها "انتظــار" .. فقد كان الانتظــار سيد الموقــف ، اذ سرعان ما خالفت الوزارة الموعــد كما خالفت مواعيد سابقة أخــرى ، ولم تعلــن عن نتائج التعيينات خلال الموعـد المحدد – الثاني من شهر غشت – فما كان على جميع المتدربيـــن الا أن يرضخوا للأمر الواقع والبقاء جنبــا إلى جنب أمام شاشـة الحاسوب ترقبــا لأي خبـر قد يأتي وقد لا يأتي …في عز الإنتظار وفي عنفوان الترقـب ، كان موضوع "التعيين" يتعقب "سليم" في حركاته وسكناته ..في حله وترحاله .. وكأنه حـب جارف يكاد يجهـز على دقــات القلب وخفقــات الفــؤاد … أو نسيم دافئ يزحـف بأريحيـة نحـو القلوب العطشى في عـز موجات الحرارة الكاسحة ..فيعطيها الأمل في العيش والإستمرار رغم صعوبات المطبات … كان حينها لا يبارح الشبكة العنكبوتية ، يتنقل بين طيات الصفحات كما يتنقل النحل الهائم بين البراري والمروج بحثــا عن رحيــق متناثــر … كان ينتظر كغيره من آلاف الخريجيــن الجدد إطلالة لوائح التعيينات … وفي كل لحظة إنتظار .. كانت أحاسيسه تتقلـى كسمكة سلمــون على مقلـة الترقــب .. وكان "التعييــن " يطارده كالهواجس ..كالكوابيـــيس المزعجـة …