لحظة الضابط "سليم" الراسخــة كانت غضون شهـر شتنبــر من سنـة 2013 .. خطـا الخطوة الأولــى نحو مصير لم يكـن وقتها يعــــرف تفاصيله ولا حيثياتـه .. إجتـاز خلسة مبــاراة الولوج إلى "المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين"… بعد ليلــة مرطونيـة قضاهــا على رأس الديمومـة لم يغمـض له وقتـها جفــن طوال لـيل المرسى القــارس .. غادر مقر الديمومة صباحا قبل أن تدق ساعة نهايتها (08و03د).. وهو يخــرج عبر البــاب رقم 3 متأبطا محفظتــه الســوداء .. كان هاجســه الوحيـد ألا يتم الإتصــال به من طــرف غرفـة العمليــات وإشعــاره بقضيـة مستجدة أو إيقــــاف شخص ما متلبـس بسرقـة ما يستدعي حضــوره المستعجل للمصلحـة من أجل مبــاشرة الإجراءات المسطريـة الأوليـة .. مر كما تعود على ذلك عبر خطوط السكة الحديدية المفضيـة إلى محطة البيضاء المينــاء القريبــة على بعد خطوات .. كان المكان باردا خاليا إلا من بعض المياومين وبعض الكلاب المتسكعة التي قادها قدرها لتتعايش وسط صخب الشاحنات والمقطورات التي تقطع رحلات مكوكية من وإلى المرسى .. إتجه نحو مدارة الزلاقــة على مقربة من مقر شركـة "كومناف" ومنها قطــع شارع باستـور وتوقف لحظات بمحطة الحافلات بمحاداة محكمة الإستئناف .. وبعد انتظار قصير ،إستقـل الحافلـة رقم 900 في إتجاه مدينـة فضالـة عبر الطريق الساحلي .. في حــدود الساعة السابعة والربــع وصلت الحافلة الى خط النهايــة على مستوى شـارع المقاومـة .. نزل من الحافلة وترجل مسافة على الأقــدام إلى أن وصل إلى مقهـى رياض سوس على مستوى شارع الريــاض .. حيث تناول وجبــة الفطـور في إنتظار إقتراب الساعة الثامنة موعد الإمتحـــان .. وهو يقبـل فنجان القهـوة من حيــن لآخر .. كان شغله الشاغل هو هاتفـه الخلــوي .. مرة مرة كان ينتبــه إليه وكأنه متيــم بـه .. هاجسه الوحيد والأوحـد ألا يتم الإتصال بــه من طرف قاعة المواصلات قبل الساعة الثامنة والنصف موعد انتهاء نوبــة عملـه .. موازاة مع ذلك كان بين الفينة والأخرى يلقي آخر النظرات على ما يتحوز به من وثائق ودروس قبل الولوج الى قاعة الامتحان .. وكأنه فارس متيم يلقي آخر النظرات على معشوقته قبل الرحيل في اتجاه ساحة الوغـى …
في حدود الساعة السابعة وخمسين دقيقة .. غادر المقهى وترجل بخطوات متثاقلة في إتجــاه مركز الإمتحان المتواجد بنفس الشارع "ثانوية العاليا".. وهو يقـــف أمام الثانوية إلى جانب مجموعة من المترشحيــن .. كان يــراوده شعــور غريب يتقاطــع فيه الممكــن باللاممكــن .. الحقيقــة بالسراب ..كانت آثار العياء والإرهــاق بادية على محيـاه جراء ليالي الديمومة المسترسلة بكل ما حملته وتحمله من إنعكاسات نفسية وجسدية على حد سواء … ومـع ذلك فقـد كان مؤمنـا بإمكانيـة تحقيــق الحلـم المرابط في قلعة أفكـاره منـذ سنــوات .. في تمام الساعــة الثامنة صباحا ولج إلى المؤسســة رفقة المترشحين .. كانوا أعــــدادا هائلـة .. كل واحد أتــى ليدافـع عن أملــه ولو كان بصيصـا .. عرج أول الأمر على سبورة وضعت عند مدخل الثانوية ، سجل رقمه ورقم القاعة وغادر .. تساءل وقتها وهو يلج إلى قاعة الإمتحان بخطوات متثاقلة : كيف له أن يجتاز مباراة بعد ليلة بيضاء لم يغمض له فيها جفن ؟ وأي أمل سيكون له في مباراة تقدم إليها عشرات الآلاف من المترشحين من كل صوب وإتجاه ؟ وإلى أي حد لا زال يحتفظ بإمكانياته وقدراته المعرفية بعد أكثر من عقـد من الزمن في صفوف الشرطة ؟ كانت الأسئلة تتساقط عليه تباعا كما تتساقط زخــات المطر على الأراضي العطشى ..لكن ومهما كانت الأجوبة أو محاولات الأجوبة تبدو عصية على الفهم والإدراك ، فقد كانت تحركه قوة مشتعلة ورغبة جامحـة تغديها آمال عريضـة في كسر شوكة الآهات وكبح جماح الضجر وفك القيود والأغـــلال …
إجتاز المباراة صباح مساء .. من سخرية القــدر أن موعـدها تزامـن مع فتــرة راحتـه لكونه قضى الليلــة السابقــة في الديمومـة ..المباراة مــرت في ظــروف عاديــة وقد حرص كل الحــرص أن يكون دقيقـا ومركزا في إجاباته .. كانت بالنسبة إليه لحظة مفصليــة .. بعد سنــوات قضاهــا وسط أكــوام المحاضر والتقاريـر التي لا تنتهـي .. لم يكن حينهــا يـدرك .. أنه يخطــو الخطوة الأولـى التي ستغيــر المسار رأسا على عقــب …
بعد عبــور سحابة المبــاراة عاد الضابط "سليم" إلى إيقاعات العمل بكل ما تحمله من رتابـــة وآهــات.. كان كل يوم وكل ليلة بل وكل لحظة .. يبحث في شبكة الأنترنيت مترقبا نتائج المباراة الكتابية بين كل لحظة وحين .. كانت صفحة المراكز الجهوية ملاذه الآمن .. كا يتردد عليها مناصفة بينها وبين البوابة الرسمية للمباراة بما في ذلك موقع الوزارة الوصية .. كان لا يبارح الشبكة بحثا عن خبر أو مستجد أو معلومة حول تاريخ إعلان نتائج المباراة .. وفي إحدى الأمسيات وهو ينقب في الشبكة .. أمكن له الولوج بشكل فجائي إلى البوابة الإلكترونية بعد أن أدخل البيانات الخاصة بــه .. فوجئ برسالة تشير إلى نجاحه في الكتابي وتدعوه إلى إستكمال وإيداع ملف الترشيح بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمدينة طنجة .. لم يصدق وقتها حقيقة ما لاحظ .. ظن منذ الوهلة الأولى أن الأمر ربما يكون خطأ ما أو أن البوابــة في طور التجريب .. حتى يتأكد من الوضع ، فقد خرج من البوابة وحاول الولوج إليها مجـددا .. لكنه لم يفلح في إقتحامها بسبب ثقل سرعة الحاسوب أو ربما بسبب كثرة الضغط المفرط على البوابة من طرف آلاف المرشحين الذين كانوا يترقبون أن يتوصلوا بخبر سـار .. لكنه لم يستسلم ولم يزده بطء الحاسوب الا اصرارا وعنادا في الوصول الى الخبر اليقيــن .. بعد عدة محاولات ، رضخت له البوابة وفتحت له أحضانها .. لتزف له "رسالة نجاح" تطلب منه إستكمال الملف وإيداعه بمركز طنجة الذي سيكون في ذات الآن مركزا للإمتحان الشفوي .. حينها أحس بإحساس لا يوازيه إحســاس وشعور لا يقو عليه وصف ولا تقدير .. أيقن حينها بما لايدع مجالا للشك أن الفرصة المتاحة تبقى من ذهب وربما لن تجود بها الحيــاة مرة أخرى .. أدرك وقتها أن حلم التغيير الراقد في متحف ذاته منذ سنوات ، أضحى أقرب إلى التحقيق على أرضية الواقـع بعد سنوات الضجر.. حينها وحتى يتمكن من إداع ملف الترشيح وإجتياز المباراة ، كان عليه أن يعد العدة للإمتحان الشفوي بعيدا عن آهات ورتابة العمل ، لذلك حصل على إجازة مرضية ووضعها عن طريق أحد الزملاء بكتابة المصلحة ، وغادر إلى طنجة ذات صباح وأودع هناك ملف الترشيح المطلوب .. وعقبها كان عليه أن يضع مخطط عمل يتناسب مع قصر المدة .. حيث ركز الإهتمام على برنامج التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي والبحث عبر الشبكة العنكبوتية عن بعض المواضيــع ذات الصلة بعلوم التربيــة .. ظل الأمر كذلك إلى أن حل موعد الإمتحان الشفوي ، حيث غادر إلى عروس الشمال ذات صباح (29/11/2013) في أول قطار قادم من مراكش عبر المحمدية .. على طول الرحلة كان بين الفينة والأخرى يقرأ الوثائق التي يتحوز بها من أجل تثبيت المعلومات إلى أن وصل محطة القطار طنجة المدينة في حدود الساعة العاشرة والنصف صباحا ، وهناك أخذ سيارة طاكسي من الحجم الصغير قادته إلى المركز الجهوي ، وبما أن الموعد المخصص له كان على الساعة الثالثة بعد الزوال ، فقد إنزوى بإحدى المقاهي المجاورة من أجل تناول وجبة الفطور .. أخذ كأس شاي منعنع من الحجم الكبيــر و"كيكة" إقتناها من "كلاي" مجــاور .. وتناول وجبة فطوره .. كانت وقتها أجواء الخريف في طنجة جد قارسة تتخللها ريــاح ساكنة تارة ومتمردة تارة أخــرى ..في حدود الساعة 13و50د غادر المقهى بخطوات متثاقلة ، كانت نفسيته وقتها مضطربة وكأنه مغن يتأهب من أجل الصعود إلى الخشبة لإحياء حفل أمام جمهور عريض .. أو شاب يافع يجري أول مباراة توظيف مصيرية في حياته .. حتى أنه أجل وجبة الغداء إلى ما بعد إجتياز الإمتحان الشفوي.. وما أن وصل إلى باب المركز حتى إستفسر الحارس وأرشده إلى مكان الإمتحان .. ترجل خطوات إلى أن توقف عند سبورة علقت عليها لوائح المرشحين .. بعد أن تبين له أنه سيجتاز الامتحان لدى اللجنة الأولى على مستوى المطبخ رقم 1، غادر متجها الى المكان بدلالة وإرشاد من أحد الأعــوان .. وهناك انتظر أقل من ساعة من الزمن ، إلى أن خرج المرشح الأول من قاعة الإمتحان ، حينها لم يجد بدا من التخلص من حالة التوتر التي كانت تتسكع في زقاقات نفسه بكل طلاقة وأريحية .. وولج إلى القاعة لمقابلة اللجنة الثلاثية .. كان يعي كل الوعي أن الهندام له حيز ضمن شبكة التنقيط ، لذلك كان كما تعود على ذلك في حياته المهنية أشد حرصا في أن يكون في أحسن مظهر لائــق .. ألقى التحية على لجنة الامتحان بلباقة وثقة في النفس ، وتسلم ورقة عليها أسئلة خاصة بالجغرافيا وثلاتة نصوص خاصة بالتاريخ يدور موضوعها حول المقاومة والحماية ، وطلب منه أن يجلس بمكتب عند مدخل القاعة من أجل التفكير وتهيئة الأجوبة المناسبة .. كان يدرك وقتها أن اللحظة مصيرية وتاريخية وربما لن تجود بها الحياة الى الأبد ، لذلك كان لا بد من أن يتحلى بالثقة وضبط النفس حتى يقطع مطبة الشفوي في ظروف آمنـة .. حوالي خمسة دقائق تمت المناداة عليه من طرف اللجنة وما أن جلس أمامها حتى طلب منه أن يقدم نفسه .. وبعدها طلب منه الاجابة على أسئلة الجغرافيا .. والتي تبابنت بين "الكويسطا"و"البراكين'' و''دوارن الكرة الأرضية" ، بعد إجابته ، طلب منه قراءة نصوص التاريخ المسلمة إليه .. كان يدرك أن اللجنة تهدف من وراء ذلك إلى إختبار قدراته الصوتية ومدى سلامة قراءته .. لذلك حرص أن يقرأ النصوص بصوت مرتفع وبنطـق سليم ، بعد أن أنهى القراءة طلب منه مناقشة مضمون الوثائـق ،وبين الفينة والأخرى كانت توجه إليه أسئلة توجيهية حول المقاومة وأبطالها وأمكنتها .. لكن السؤال الذي أربك بعض حساباته جاء من أستاذ يجلس من جهة اليسار يبدو بشعره الكثيف الذي اكتسحه الشيب ك "بيتهوفن" أو"بيكاسو" .. قال له بكل أريحية : ما دمت تدرس القانون ما هو الظهير ؟ وما هو السند القانوني لعقد الحماية ؟ طبعا لم يجد الضابط "سليم" صعوبة في وضع تعريف للظهير ، لكن الجواب عن السؤال الثاني ، تطلب منه بذل بعض المجهود، ليس لأن السؤال صعب ، ولكن لأنه غير متوقع ، وكذا لأن دارسي التاريخ عادة لا ينتبهون إلى عمق وأبعاد القانون في الظاهرة التاريخية ، وهي أمور لا يمكن أن يعي بها إلا دارسي القانون ، لذلك فإفصاحه للجنة من كونه طالب بشعبة القانون ، جلب إليه هذا السؤال الإستثنائي والمشروع في نفس الآن ، ومــع ذلك فقد أشار إلى "مؤتمر الجزيرة الخضراء" وهو ما أكده الأستاذ صاحب السؤال وقدم شروحات مقتضبة حول الموضوع ، ومع ذلك لم يقو " سليم " على مجادلة الأستاذ حول الموضوع إيمانا منه أنه يفتقد وقتها إلى التفاصيل والجزئيات ، لأن عقد الحماية في تصوره كان في حد ذاته عقدا فيه نوع من الإذعان وفرضته فرنسا في غياب تام لارادة ورضا الدولة المحمية .. وبعيدا عن الظهير والقانون ، وجه إليه سؤال عن نشاطه المهني وحياته الشخصية .. وبما أنه كان متوقعا لهذا السؤال ، فقد كان مهيئا للجواب المناسب ، أجاب أنه يشتغل كمسؤول في الأمـن بإحدى الشركات الخاصة ، إستفسر عن راتبه ونوعية وطبيعة عمله .. لم يقو حينها عن الإفصاح عن مهنته الحقيقية ، لأنه إجتاز المباراة بدون ترخيص من الإدارة المشغلــة والذي كان من الصعب بل ومن المستحيل الحصول عليــه ، ولم يكن أمامه من رد سوى إخفاء وضعيته المهنية الحقيقيـة ، تفاديا لأية ردات أفعال من اللجنة من شأنها التأثير السلبي على وضعيته وحظوظه .. عقب ذلك تم الإنتقال به إلى علوم التربية ووجهت إليه أسئلة مختلفة حول مهامه كمدرس ، قبل أن يتم الختم معه بإختبار قدراته في اللغة الفرنسية.. لتطلب منه اللجنة المغادرة بعد أن تمنت له التوفيق .. غادرالضابط "سليم" للتو قاعة الإمتحان بعد أن شكر أعضاء اللجنة الذين تحلوا بجانب كبير من الجدية والمسؤولية واللباقة والمهنية والأريحية ، وإستقل سيارة أجرة صغيرة أخذته إلى محطة القطار من أجل العودة .. كان يحس وقتها وهو في الطريق الى المحطة أنه تخلص من جبل من الضغط والتوتر .. واكتسحه انطباع ايجابي جدا من أن النتيجة ستكون موفقة بإذن الله بعد أن مر الامتحان الشفوي بشكل جيد …كان يحس أنه على وشك أن يطلق السلاح الناري والأصفاد والمحاضر طلاقا لارجعة فيه …وبعد أيام قليلة سرعـان ما تم الإعلان عن النتائج النهائية عبر البوابة .. كانت النتيجة سارة للغاية .. وكانت تلك إيذانــا بنهاية مسار وبداية مســار آخر..
مباشرة بعد ذلك،بادر الضابط "سليم" للتو إلى وضع طلب إستقالة من مهامه الشرطية .. خبر الإستقالة نزل على زملائه بردا وسلامـا .. إلى حد أن البعض أحـس بالصدمة والصعقة .. وكان السؤال العريض الذي يطارده كالطيف هو كيف ؟ ولماذ؟ كان يجيب بنــوع من الإقتضاب والديبلوماسية دون أن يقدم التفاصيـل .. حينها إنتهى بالنسبة إليه العمـل بسلك الشرطــة وكان وجوده بهذا السلك مجــرد مسألة أوقات قليلة جــدا .. كان رهانه الأول أن يوقع الطلب من طرف رئيس المنطقــة ويحال على مقر الولاية الأمنية من أجل التأشير عليه في إنتظار إحالته على الإدارة المشغلة لتبت فيــه .. كان الطلب وكلما وصل إلى رئيــس تتم المناداة عليـه بناء على طلب من الرئيس المعني .. كان يحرك الإستدعاء الرغبة في معرفة أسباب وبواعث الإستقالة خاصة وأن المستقيــل يبقى من الأطـر ..
من بين ما سجلته ذاكرة "سليم" خلال تلك اللحظات العابرة ، هو لقاؤه بمسؤول عن المصلحة الإدارية الولائيــة ، فاجأ "سليم" بموقفه بعد أن علم أنه حصل على مهنة جديدة في قطاع التعليم ، قال له : "على سلامتك الله يسر ليك .. المهنة ليست هي المهنة وظروف العمل ليست هي ظروف العمل" ، ما قاله المسؤول المذكور أثلج صدر "سليم" وجعلـه ينسـى بعض العقليات القديمة التي لازالت تعشش كالعناكب في ردهات القطاع ، لكن هذا الإنطبــاع الإيجابي للغاية سرعان مازال عشية نفس اليــوم ، بعدما إلتقى الضابط "سليم" بالمسؤول الثاني في الولاية …، وبعد أن حملق هذا الأخير في طلب الإستقالة ، وبدل أن يستفسر "سليم" عن حيثيات وبواعث الطلب ، خاطبه بكلمات متقاطعة تحمل بين طياتها أكثر من دلالة : "فكرتي فهاذ الشي " قاطعه "سليم" بسرعة فائقة : "فكرت جيدا " قبل أن يقاطع كلماته قائلا: "دابا تنــدم " ، قال له "سليم" بكل ثقة :"لن أنــدم أبدا " ، قبل أن يغادر المكتب بعد أن تمتم ذات المسؤول بكلمات مفادها أنه سوف يعمل على توقيع الطلب ، لم يتفاجأ الضابط "سليم" من تلك العقلية ، لأنه تعامل وتكيــف مع عشرات من النماذج المماثلة التي صادفها طوال مساره المهني ، لكنه تأســف في ذات الآن لأنه لم يسلـــم من هكذا عراقيل ومطبات ، حتى وهو في لحظة المغادرة النهائية للصفـــوف ، ومع ذلك ، فقد تحمل الضابط "سليم" هـذه المطبات العابرة .. إلى أن إطمئن أن الطلب قد تمت إحالته على المديرية العامة لتنظر فيه .. كانت تحذوه وقتها ، رغبة وحيدة في أن يتم النظر في الطلب في أقصر مدة ممكنة .. حتى يلتحق بالتكوين بدون أدنى مشاكل وكذا حتى تكون الإستقالة سابقة لتاريخ توقيع محضر الإلتحاق بالوظيفة الجديدة .. تعقب الطلب في المديرية العامة ذات خميس، وربط الإتصال بمكتب الضبط المركزي ، وتأكد له فعلا خبر وصول الطلب في إنتظار إحالته على المصلحة المعنية … خلال اليوم الموالي وقد كان يوم جمعة، وبينما كان الضابط "سليم" بصدد التفكير في وضع رخصة مرضية أخرى أمام المصلحة لتدبير هذه الظرفية وحتى يتسنى له تتبع مجريات الطلب بالمديرية العامة ، تلقى اتصــــالا هاتفيا من العمل ، أشعر بخبر وصول برقية استقالتـه من العمل كما أشعر بضــرورة الإتيان بمختلف أغراض العمل صبيحة الإثنين القادم ، هـذا الخبـر المفاجئ نزل على الضابط "سليم" كقطعة ثلج بــاردة .. إلى درجة أنه لم يصـدق السرعة القياسية التي تمت خلالها الإستجابة والموافقة على طلب إستقالته .. شكر الله عزوجل بعدما تيسرت له الأمور ونال ما أراد .. كانت تلك اللحظة إيذانا بنهاية الضابط سليم وبدايــة سليم الأستـــاذ …
الرغبة الجامحة للضابط "سليم" في التغيير المنشود وتطليق الأصفاد والخراطيش طلاقا لارجعة فيه ، أنســاه وقتها فكرة توقع كيفية تدبير الظرفية الجديدة في حالة ما إذا حالفه الحظ في النجاح ، شغله الشاغل كان هو الإنعتاق والتحرر من أغلال الآهات ، لكن نجاحه النهائي في المبـاراة وتوصله بقرار الإستقالة ، كان إيذانا بنهاية مسار وبداية مسار آخــر ، وهذا التحرر الذي كان يبدو إلى وقت قريب أقرب إلى المحـال ، جعل "سليم" وجها لوجــه أمـام "حقيقة" أضحت تلوح في الأفق وتلقي بسؤالها العريض عليه ، كيف سيدبر هذه الوضعية الجديدة والإنتقالية من الناحية المادية بعد أن تم إيقاف راتبــه الشهري مباشرة بعد توصله بقرار الإستقالة من الوظيفة الشرطية أواسط شهر دجنبر من سنة2013 ، كان يمني النفـس حينها لو تم الإحتفاظ له براتبه الشهـري وأن يلحق بالوظيفة الجديدة بأريحية حتى لا يعاني من التداعيات المادية للوضع الجديد ، لكن ذلك لم يكــن ممكنـا لأنه إجتــاز المبــاراة بـدون ترخيـص من الادارة المشغلـة ، ولم تكن امكانيـة الحصول على "الترخيص" متاحة تمامــا ، ممــا فرض عليه أن يجتـاز المباراة بصفـة "المرشح الحر" وليس بصفة "الموظــف" ، وقـد كان يدرك أنه وحتى في حالة ما اذا تم تمكينـه من "ترخيــص" لاجتياز المباراة ، فـان امكانية الحاقـه بالوظيفة الجديــدة لن تكون ميســرة ، عمومــا وفي ظـل هذا الوضــع الجديد ، فقـــد كان "سليــم " أمام جملـة من الإكراهات المادية منها إقتطاعات السكن ومصاريف تمدرس الأبنـاء ووما تبقى له من دفعات قرض الإستهلاك وكذا متطلبات السكن بالداخلية من سومة الكراء ومصاريف الأكل والشرب ومصاريف التنقل دون أن ينسى مصاريف العيش اليومي لأسرته الصغيـرة ، كل هـذه الاكراهات كانت تؤرق بال "سليم" كالكابوس المزعـــج ، صعوبـة أخــرى كانت تفرض نفسها بالحاح وتزيد الوضــع تعقيدا ، هـي أنه كان مقررا أن يتسلم فقط "منحـة" خلال فترة التكوين تقـل عن "2500درهما" ، ستتوقف خلال نهاية فترة التكوين (غضون شهـر يوليوز) ، كما كانت تلوح في الأفق البعيـد صعوبات أخــرى أكثـر تعقيــدا ، كون عمله الرسمي بالوظيفــة الجديدة لن يبدأ إلا إنطلاقــا من شهــر شتنبـر 2014 أي بداية الموسم الدراسي المقبل ، ولن يتمكن من تسلــم راتبـه الشهري الجديـد إلا بعد مضي مدة قـد تصل في أقصـى الحالات إلى نهاية الموســم ، علما أن الراتب الشهري المنتظر سيكون أقل من الراتب الأول ،لم يكــن له من خيــار ســوى أن يتكيـف مع الوضع وأن يتعامـل مع كل مرحلـة بما يلزمهــا من تدابيــر، كان عليه الصبر والتحمـل ، بعــد أن حــقق حلمــا كان يبــدو إلى وقت قريب مستحيــلا، كان يدرك أن " الأزمة " العابرة ستمضي في جميــع الحالات ، وأن المستقبـل القادم سيكــون أفضـل بمشيئـة الله عز وجــل…