الرئيسية / بديل ثقافي / قراءة نقدية للناقد الدكتورعبد الاله رابحي في الشريط السينمائي القصير “التهمة”

قراءة نقدية للناقد الدكتورعبد الاله رابحي في الشريط السينمائي القصير “التهمة”

بين الصدفة والضرورة
… تجري الأحداث بمنطق الصدفة، غير انها صدفة تحكمها الضرورة. يا للمفارقةَ ! هي المفارقة التي تجد سبل الجواب عنها من خلال مجريات الأحداث حين يصبح المتهم في صلب الوقائع بحثا عن جريمته أولا، والبحث عن براءته ثانيا، الجريمة والبراءة دفعة واحدة في سيل متلاحق من المتواليات المكثفة، فيستقيم تسلسل الأحداث، وتطمر المفارقة من حيث لا يدري المتلقي، ينخرط في المجريات، ويصبح تناقض الصدفة والضرورة هو ما تستبطنه الصورة الفنية من غير ان يظل هاجس المشاهد إعادة النظر في مرتكزات الانطلاق . فهل نحن أمام جرّ الأعين الى تقنية تستجيب لضرورة الانخراط في مسلسل الأحداث من غير وضع الأسئلة المزعجة المشوشة على ضرورة الانخراط في متاهة اللذة الجمالية؟

تستجيب نقطة الانطلاق في شريط ” التهمة ” الى منطق التواجد بمنطق الصدفة في معترك الحياة، وكأني بالمخرج سليمان الطلحي مهووس بسؤال الوجود. كائن أعزل يعيش وحيدا في عالم يغلي من حوله، يكابد اختيار العزلة والوحدة، وقد وجد ضالته في سكون العيش بعيدا عن خضم جلبة الواقع، ومن حوله تنسج الأيام وتداولها حبكتها الوجودية، فاذا به صدفة، وفي لحظة جرّ قهري الى دائرة الصراع، يجد نفسه معني، من حيث لا يدري، بحبائل حيكت في غيابه ، يؤذي ضريبة مجتمع اختار منذ اللقطة الأولى أن يعيش على هامشه، وبمحض ارادته ، حتى تلك التي هي من صلبه كانت تبعد عنه ببحر من المسافات، ولا تربطه بها الا أسلاك هاتفية صمّاء بين الفينة والأخرى، لا يكون فيها البطل اطلاقا هو المرسل بل مرسل اليه ، يستجيب، رغما عنه، للسؤال عن أحواله، تقول تلك التي من صلبه في عزّ الحيرة لمن ألف غيابه:
ـ ” ليست من عادته الا يجيب، لابد وان أمرا جللا قد وقع !

انه اعلان الاختفاء ، واشاعته بين الناس ، وفي الشارع العام، هو بحث مضني عن ولادة جديدة، هو عيش مخاض هذه الولادة . هو انتقال البطل من ذات هامشية معزولة الى موضوع عام لا بد لكل العابرين من جعله همّا جماعيا.

من هنا تنطلق شرارة الصدفة بسؤال ” الاختفاء “، لينضاف للعزلة والوحدة اختيارا معيشيا، وليعيش الاختيار تفاصيل ارتكاب جرم دون علم. هل كان سيعيش هذا الاختيار الصعب نفس المآل لو انه انخرط منذ الوهلة الأولى في مسلسل الحبائل والمكائد الاجتماعية؟ هي بكل تأكيد البراءة الفطرية التي تلح على الاستمرار في منطق الاختيار، يقول البطل في عزّ المحنة، وأمام محققين شداد غلاظ لا يعصون أمر من وكلّهم أمر التحقيق في جريمة يبحث فيها العقاب عن ذنبه، و في قلب عجيب لمعادلة دوستويفسكي ” الجريمة والعقاب ” ، يقول ببراءة ممزوجة بالتحدي :
ـ هل أعترف بجرم لم أرتكبه ؟!

الصورة التعسة ، باستعمالاتها المتعددة ، ووضعياتها المتعددة ، وقراءاتها المختلفة هي مرآة عن نفسها ، عن الواقع ، وعمن أنتجها – شخصا أو مجتمعا ـ وعمن يشاهدها بالأساس ، بذا لهج رولان بارث وهو يقرأ تفاصيل الصورة الفنية، ببساطة في تقديري، لأن المشاهد[ الكائن] لم يطرح سؤال البداية، وانخرط بكل ثقله في مسلسل وقائع الحياة المتلاحقة .

في الزنزانة، وبين الجدران الرطبة، ومع الجرد، يجري الحوار الحقيقي ، ذاك الذي يعيدنا لسؤال البداية في سؤال استنكاري ، فيه جمع عجيب بين السخرية من الواقع ومكابدة الألم :
ـ انت أيضا أتوا بك وأنت لا تدري….
سؤال يظل بدون جواب لأنه ينتمي لمنطق العبث الوجودي الذي يحياه من كان ضحية للصدفة.

يكاد تكون ثلثا المشاهد في الشريط توثق لصور الألم ، ذاك الذي يكابده الجسد، وروح الاختيار غير معنية به مادام لا يعوزها الإصرار…. الإصرار على الحياد، الإصرار على الجواب الأول: ” رأيت طريقا أمامي فمشيت “.
صور الألم تظهر على جسد المتهم ، وقد ارتسمت سطورا دموية على صفحة الوجه والظهر ، أماما وخلفا . والدم ينزف شلالا، رمزا لعذاب الكائن بين الموت والحياة.
صور الألم هي نزع الأسطرة عن الواقع المرّ، هي تعرية وفضح، هي كشف للمستور الذي لم يتساءل عنه الكائن الساكن بسعادة متوهمة دوامة الحياة، نوع من “الكاترسيس”الارسطي يبتغي به المخرج تطهير المشاهد من كل العواطف الخسيسة لفتح الحياة على ولادة جديدة.
عادة ما تؤذي الجريمة الى العقاب مادام انه لاوجود أصلا لجريمة تامة على حد تعبير علماء الاجرام ، كما أنه عادة ما يؤذي الاتهام المجاني بالمتهم البريء الى ارتكاب الجريمة ليبررعقابه على حدّ تعبير الابداع الكافكاوي ، الا أن بطل ” المتهم ، ولأنه من طينة الكائنات النادرة التي طرحت بعمق سؤال الاختيار، انما يصر الى العودة الذاتية الى سبيل الاختيار ، والعودة الموضوعية من سبيل الغيّ الآدمي ، فهو لن يبتغي حلا لمأساته الا بالعودة الى أصله ، الى ولادته من جديد ، بعد خروجه منتصرا على الموت، العودة الى أحضان الطبيعة، وما الطلقتان المصاحبتان للحظة الولادة الا عودة فنية للانفجار الأول، حينها لا يجد كائن الاختيار الا الأفق الرحب لمعانقة المطلق بيدين مفتوحتين حتى يتسنى لنا جميعا استنشاق الحياة بمنطق الاختيار وبرفض الصدفة والضرورة معا …..هكذا قرأت شريط ” التهمة ” للمخرج الواعد سليمان الطلحي ……..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *